كان المغرب مثل الجزائر يعيش في أزمة شديدة في مطلع القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، عشية بروز السعديين فيه على مسرحه السياسي، أبرز ملامحها هي :
التفكك والتجزء
أن الوطاسيين الذين آل إليهم الحكم في المغرب في الربع الأخير من القرن 9هـ/ 15م كانت إمكانياتهم محدودة ، فعجزوا عن بسط سلطتهم على كامل أجزائه، وتوفير الأمن والاستقرار له، بحيث نجد المغرب في مطلع القرن 16م/ 10هـ مجزأ إلى وحدات سياسية صغيرة، كثيرة تحت زعامات قبلية، أو دينية، أو مجالس محلية مستقلة عن الوطاسيين تماما، أو لا تتبعهم إلا إسميا، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :
في الشمال، والجنوب الشرقي له : إمارات بني راشد في شفشاون، وآل المنظري في تطوان، و آل عبد الحميد في القصر الكبير، وآل رحوفي دبدو. وهذه الإمارات كانت تخضع إسميا للوطاسيين.
في وسط المغرب، وغربي الوسط: إمارات ابن حدو، وأخيه أبي فارس في الجبل الأخضر، وإمارة ابن عامر في تنسيتة، و إمارة آل فرحون في أسفي، وجمهوريات مدن تافزة، والجمعة، وآزمور، ونفوذ رؤساء القبائل في سهول دوكاله،وتادله. وكل هذه الإمارات الصغيرة لم تكن تخضع للوطاسيين.
وفي جنوب المغرب، وغربه : نذكر إمارة آل شنتوف في مراكش، وإمارة مولاي ادريس الهنتاني في الأطلس الكبير، وجمهوريات مدن تارودانت، وتدسي، وتفتنت، ونفوذ الشيخ يحي في ثيوط، ونفوذ المرابط ابن المبارك في آقة، ونفوذ شيخ عرب أولاد زرقان في تافيلالت. وهذه الوحدات كانت كلها مستقلة عن فاس.
والجدير بالذكر أن الوئام لم يكن هو السائد بين الوحدات المذكورة، ولا سيما المتجاورة منها، إذ كانت تقوم بينها نزاعات لأسباب مختلفة وأهمها التوسع والتحكم، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: أن أمير جبل هنتاتة كان في صراع مع أمير مراكش ، كما كان أمير الجبل الأخضر في صراع مع هذا الأخير. وكان عرب دوكالة في صراع مع مجاوريهم من السكان الجبليين البربر وسكان المدن في المنطقة. وقد يتفاقم الأمر أحيانا ليصبح النزاع قائما بين أحياء المدينة الواحدة، كما هو الشأن في تغاوست، أو بين قصور أو قرى سجلماسة، وغيرها .
الغزو البرتغالي والإسباني
إن التجزؤ الكبير الذي آل إليه المغرب في مطلع القرن 16م/ 10هـ، وعجز الوطاسيين عن القضاء عليه، قد شجع البرتغاليين و الإنسان على المضي فيما شرعوا فيه منذ مطلع القرن الخامس عشر الميلادي/التاسع الهجري من غزو وتخريب واحتلال لمدنه الساحلية، بغية تحقيق أهدافهم المختلفة، نذكر منها :
-استغلال خيرات المغرب من قموح وأصواف وخيول، وبشر للاستعباد، وغير ذلك.
-اتخـاذ قواعد لهم على المتوسط، والأطلسـي المشرفين على الطرق التجارية القديمة والجديدة.
-القضاء على قواعد البحارة المغاربة، الذين كانوا يغيرون على سفنهم وشواطئهم.
- نشر المسيحية، وشن حرب على المسلمين، وغير ذلك من الأهداف.
وإذا كـان الاسبان هم الذين بدأوا بالغزو للشواطئ المغربية بالحملة على تطوان وتخريبها في سنة 1400م، فإن البرتغاليين الذين استكملوا وحدتهم الوطنية قبل الإسبان هم الذين تفرغوا أكثر لغزو المغرب بإقدامهم على احتلال سبتة في سنة 1415 ثم محاولتهم احتلال طنجة قي سنة 1437 كانت فاشلة، تلتهـا محاولتهم الناجحة لاحتلال بلدة القصر الصغير في سنة 1458، وفي سنة 1469 قاموا بتخريـب مدينة آنفي. ثم قاموا بعد ذلك باحتلال مدينتي آصيلا، وطنجة في سنة1471.
ولما استكمل الاسبان وحدتهم في سنة 1469، دخلوا في منافسة قوية مع البرتغاليين بإقدامهم على احتلال منطقة عند وادي نون على الأطلسي، بنوا بها حصن سانتاكروز دوماربيكينا في سنة 1478، ثم راموا التوسيع في غيرها. وإنهاء لحالة النزاع التي كانت تقوم بين الطرفين، توصلوا إلى اتفاقيات تفاهم، أهمها اتفاقية طليطلة في سنة 1480، واتفاقية طورد يسيلاس في سنة 1494، وأخيرا اتفاقية سينترا في 1509 التي حددت مجال عمل كل طرف، فكان مجال الاسبانيبتدئ بحجر بادس ويمتد شرقا إلى ما يليه. أما مجال عمل البرتغاليين فيمتد غرب بادس. ولذلك تركز الغزو البرتغالي على المضيق والأطلسي، بينما تركز الغزو الاسباني على المتوسط.
وقد بلغ الغزو البرتغالي، والاسباني للشواطئ المغربية ذروته في العقديـن الأولين من القرن 16م/ 10هـ، حيث قام الاسبان باحتلال غساسة في سنة 1504، بعد أن احتلوا قبل ذلك مدينة مليلة في سنة 1497، ثم احتلوا حجر بادس في سنة1508. وكلها تقع على المتوسط، واحتلوا مواقع عديدة على الشواطئ الجزائرية خلال الفترة 1505-1535 كما رأينا في الفصل الأول.
أما البرتغاليون فاحتلوا بعد اتفاقية طور ديسيلاس المذكورة مدينة ماسا في سنة 1497 ثم موقع مازكان في سنة 1502 فآغادير في سنة 1505 وموكادور سنة 1506 وآسفي في سنة 1508، وآزمور في سنة 1513، وتطلعوا في سنة 1515 إلى احتلال مدينة مراكش، ولكن حملتهم عليها باءت بالفشل، كما باءت بالفشل حملتهم لاحتلال موقع المعمورة المنفذ البحري لمدينة فاس في نفس السنة.
وستأتي الإشارات إلى مصيـر الغــزو البرتغالـي بعد قيـام السعدييــن، واشتداد عودهم في المغرب، في الصفحات القادمة.
1-2 من الناحية الاقتصادية
إن ميل المغرب إلى التجزؤ، وتعرضه إلى الغزو الخارجي، قد نجم عنه اضطراب شديد للأمن، والاستقرار فيه، مما أثر كثيرا على كل الأنشطة الاقتصادية فيه، من تجارة، وفلاحة، وصناعة.
فالتجارة الداخلية بين المناطق تأثرت باضطراب الأمن في الطرق والسواق، بحيث بات من حسن الحظ أن تنجو قافلات التجار من الاعتداء عليها، إما من البرتغاليين أو الأسبان أو الأعراب.
أما التجارة الخارجية بين المغرب وأوربا، وبينه وبين بلاد السودان ا لتي كانت أحد مصادر الرخاء للمغرب قبل اضطراب أحواله فتأثرت هي الأخرى بالغزو، والاحتلال الذي تعرضت له المنافذ البحرية التي كان المغرب يتاجر من خلالها مع الدول الأوربية، كما تأثرت بالحظر الذي فرضه الأسبان والبرتغاليون على غيرهم من الأوربيين الذين يريدون التجارة مع المغرب، خوفا من أن يهربّوا له الأسلحة الناريـة التي كان المغاربة في حاجة إليها، بحيث بـات المغرب يعـاني من اختناق شديـد.
ولم تسلم تجـارة المغرب مع بـلاد السودان مـن منافسـة البرتغالييـن لهم فيها، ومن التأثر بالأوضاع المضطربة في المغرب، مما جعل محاور التجارة السودانية تميل أكثر فأكثر إما نحو قواعد البرتغاليين وغيرهم مـن الأوربيين على الأطلسي، أو نحو الشمال الشرقي، أي إلى الجزائر وتونس.
أما الفلاحة التي كانت توفر الغذاء لكل سكان المغرب على الرغم من احتفاظ الفلاح المغربي بالوسائل والطرق القديمة في الإنتاج، فتقلص نطاقها، لأن الفلاحين هجروا حقولهم في المناطق غير الآمنة، وقصدوا المناطق الأكثر أمنا، ولو كانت جبلية.
وأما الصناعة التي كانت لا تزال في طورها الحرفي فتأثرت هي الأخرى بما أصاب قطاعي الفلاحة، والتجارة من أضرار، وبالذات ما أصاب قطاع المدن التي كانت تحتضن الحرفيين، و ورشاتهم من تخريب، وغزو، واحتلال، وقتل للحرفيين مثل غيرهم، بحيث لم يبق من المراكز الحرفية النشيطة في أوائل القرن السادس عشر الميلادي/ العاشر الهجري سوى مدينة فاس التي كانت عاصمة للمرينيين، ثم غدت عاصمة للوطاسيين، والتي سلمت من الغزو الخارجي، وتخريبه.
1-3 من الناحية الاجتماعية
كان لاضطراب الأحوال السياسية في المغرب لمدة طويلة، وما نجم عن ذلك من التجزؤ والغزو الخارجي أسوأ الأثر على الوضع الاجتماعي للسكان، ويتجلى ذلك في حالة الفقر التي آل إليها الكثيـرون، والتي غدت الملمح الغالب للسكان في المدن، ولا سيما في القرى، وهو ما يستخلصه القارئ لكتاب الوزان الذي وصف لنا فيه حالة السكـان في المدن والقرى التي زارها في كل أنحاء المغرب. كما يتجلى في حركة الهجرة القسرية التي عرفها سكان المغرب في المناطق التي تعرضت للغزو البرتغالي والأسباني، أو التي كانت هدفا لغاراته إلى الجهات والمناطق الأكثر أمنا. ولا يخفى أن تلك الهجرة كانت تتم في ظوف صعبة، حيث كان المهاجرون يفقدون منازلهم، وأملاكهم، مما كان يتسبب في تردي وضعيتهم.
ولكن الأثر السيئ للغزو الخارجي، والتفكك الداخلي يظهر واضحا أيضا في تقلص قطاع المدن نتيجة الاحتلال أو التخريب الذي أصاب الكثير منها، وتدهور معظم المدن الباقية نتيجة التهديد الذي كانت تعيش فيه إما من الغزاة البرتغـاليينوالاسبان، أو من القوى الداخلية المتنازعة. فباستثناء مدينة فاس، وتطوان، وشفشاون التي عرفت انتعاشا وكثافة سكانية بمن انضاف إليها من المهاجرين والمغاربة فإن معظم المدن المغربية عرفت ضمورا ملحوظا على غرار مدينة مراكش، التي باتت خربة مهجورة بنسبة الثلثين. وقد نجم عن ذلك أن أضحى أغلب سكان المغرب يعيشون في البوادي، وفي الجبال رغم صعوبة الحياة فيها.
ولا بد من الإشارة إلى ظاهرة تفشي النزاعات، والفتن بين السكان في الأرياف، وحتى في بعض المدن، وانتشار البدع والخرافات، والانحرافات كالغش، وغيره من الآفات، التي كانت محل السخط لدى بعض المصلحين كالإمام أبي محمد عبد الله الهبطي، ومحمد بن المبارك.
إن الباحث في الحياة الثقافية والعلمية في المغرب في مطلع القرن السادس عشر الميلادي/العاشر الهجري، يجد أن كثيرا من المراكز العلمية التي كان يزخر بها قد خلا بعضها، وهذا حال المراكز التي كانت توجد بالمدن التي وقعت تحت احتلال البرتغاليين و الاسبان، أو تعرضت إلى تخريبهم. وأن مراكز علمية أخرى تدهور حالها نتيجة عيشها في حال التهديد بالغزو الداخلي أو الخـارجي أو هما معـا، وهذا حال مدينة مراكش على سبيل المثال التي كانت تعيش تحـت تهديـد القبـائل المجاورة لها، ولم تسلم من غـزو البرتغاليين وعملائهم فـي سنة 1515، فباتت شبه مهجورة،وخربة بنسبة الثلثين، بحيث م يبق فيه إلا مراكز علمية قليلة نشيطة، كان في مقدمتها جميعا مدينة فاس، حاضرة ملك الوطاسيينالتي م تتعرض للغزو الخارجي، والتي غدت مقصد العلماء والطلبة من المراكز الأخرى، وحتى من الجزائر للأخذ والعطاء في مدارسها، وجوامعها، وزواياها العديدة.
وكانت مدينة تطوان التي أعاد المهاجرون الأندلسيون بناءها، واستوطنوها مع علمائهم، وطلبتهم، هي الأخرى مركزا علميا وثقافيا نشيطا. وشبيه بها مدينة شفشاون القريبة منها، والتي كانت مركزا لإمارة بني راشد.
والذي يلفت نظر الباحث هو أن أرياف المغرب، وقراه كانت لا تخلو منها واحدة من مسجد أو زاوية كانت تقدم مبادئ العلم والدين. مما كان يخفف من ظواهر الجهل والبدع التي انتشرت في المغرب بعد تدهور الحياة العلمية والفكرية الذي عرفته منذ أواخر العهد المريني.
تلك كانت باختصار ملامح الوضع المتأزم الذي كان يعيش فيه المغرب عشية بروز السعديين فيه، وشروعهم في العمل على إخراجهم من المحنة التي كان فيها. فكيف كانت بداية أمرهم، وما هي جهودهم خلال النصف الأول من القرن16م/ 10هـ.
2- قيام السعديين في المغرب
هم من أسرة عربية الأصل كما هو مؤكد لدى من أرخ لهم، انتقل أوائلهم من ينبع بالحجاز إلى درعة بجنوب المغرب، واستوطنوا قرية تاكمادارت وذلك في المائة السادسة الهجرية على ما هو عند الزياني، وكان الاعتقاد السائد لدى المغاربة أنهم من الأشراف. وذكر ابن القاضي عمود نسبهم الشريف، إلا أن المنافسين لهم، وخاصة أيام ضعفهم ومنهم أشراف سجلماسه الحسنيون، وخصومهـم من بقايا الوطاسيين و المرينيين وأنصارهم، كانوا يطعنون في صحة نسبهم الشريفي، معتمدين في ذلك على البتر الذي لوحظ في عمود نسبهم كما ذكره ابن القاضي، وعلى ما نقل عن المقري من أن نسب السعديين يعود إلى بني سعد بن بكر بن هوازن، قوم حليمة السعدية مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم، أي من غير قريش، وهو قول تراجع عنه المقرى نفسه، وصرح بشرفهم في كتابه(نفح الطيب)،وأكد السلطان العلوي محمد بن عبد الله الزياني أن نسب السعديين الشريفي لا غبار عليه، واعترف أنهم ينحدرون من جد واحد. ويسمى السعديون أيضا بالزيدانيين، نسبة إلى جدهم زيدان بن أحمد، إلاّ أن اسم السعديـين هو الذي شاع استعمـاله وخاصة في المصادر الغربية والمراجع العربية التي ألفت بعد زوال دولتهم.
وقد ظل السعديون حتى مطلع القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي يحيون في المغرب حياة بسيطة دينية وعملية، ولم يبرزوا على المسرح السياسي إلاّ حين اشتدت وطأة البرتغاليين على سكان الجنوب المغربي، وألحقوا بهم أضرارا في أنفسهم ومصالحهم الاقتصادية دون أن يتدخل الوطاسيون لحمايتهم، أو أن يكون هنالك أمل في تدخلهم، حيث كانوا منشغلين بالدفاع عن الشمال، فالتفتت أنظار أهل الجنوب إلى هؤلاء السعدييـن لقيادة صفوفهم ضدّ البرتغالييـن، بعد أن رفض ابن المبارك ، مرابـط آقة الكبيـر، أن يتولـى هذه المهم ووجههم إلى أبي عبد الله محمد، عميد الأسرة السعدية الذي قبل أن يتولاها بعد اتصالات ومشاورات بينه وبين المرابط الآنف الذكر، وبينه وبين بني قومه، وفقهاء السوس وأعيانه في سنة 915ه/ 1509م. وتمت المبايعة له في مدينة تدسي بالسوس في سنة 916هـ/1510م.
وتلقّب أبو عبد الله بالقائم بأمر اللّه. وقدمت له كل قبيلة بايعته عشرة من رجالاتها المقاتلين فبلغ المجموع 500 رجل مما يعني أن عدد القبائل التي بايعته كان خمسين قبيلة. وكانت هذه القوة هي نواة الجيش السعدي النظامي. وقد أسند قيادتها لابنه الأكبر أحمد الأعرج.
ومما تقدم نستخلص أن أبا عبد الله القائم بأمر الله السعدي " لم يفرض نفسه على أهل السوس بجنوب المغرب فرضا، وإنما اختاره هؤلاء اختيارا. "وأسندوا إليه مقاليد أمورهم بمحض إرادتهم . ولم يكن هذا الاختيار على أساس العصبية القبلية، حيث أن القبائل الأولى التي بايعت أبا عبد الله هي قبائل بربرية من مصمودة، وإنما وقع الاختيار عليه لشرف نسبه وسمعة أسرته العلمية والدينية، وتزكية المرابط الكبير أبن المبارك، وغيره من المرابطين كأبي البركات التدسي وابن عمر المطغري.
ونستنتج مما تقدم أيضا أن المبرر الأساسي لمبايعتهم له هو الجهاد ضد البرتغاليين وأعوانهم، وقيادة صفوف المجاهدين ضدّهم، وحماية أهل الجنوب ومصالحهم من أخطار أعدائهم.
1-2علاقاتهم مع القوى المحلية،و الخارجية
كان للسعدييين علاقات متنوعة مع القوى المحلية، الدينية، و القبلية، والقوى الخارجية الغازية للمغرب و المسالمة، و المتاجرة معه.