الجديد

الجزيرة الاخبارية

الخميس، 23 مايو 2013

إمارة العزفيين في سبتة

قيام الإمارة:
         شكلت حالة الضعف والوهن التي دبت في أوصال جسم دولة الوحدين وبوجه خاص بعد موقعة العقاب سنة 609هـ/1212م([1]) دافعا قويا لتحول بعض مدن المغرب العربي ومنها سبتة عن طاعتها وتقديم ولائها لقوة جديدة تمثلت بالدولة الحفصية التي قامت في إفريقية (تونس) سنة 625هـ/1227م، إذ تقدم أهالي سبتة وأرسل حاكمها المعروف بابن خلاص البلنسي سنة 643هـ/1245م، وفدا برئاسة ابنه في أسطول يحمل هدية إلى الأمير أبي زكريا يحيى الحفصي، ولكن الأسطول غرق بما فيه وكان رد الأمير الحفصي إرسال ابن أبي خالد البلنسي، وابن الشهيد الهنتاني، لحكم سبتة وذلك في سنة 644هـ/1246م([2]). ولكن ابن أبي خالد تمادى في ظلمه وطغيانه لأهل سبتة؛ وهذا ما أثار الحقد والضغينة بينه وبين قائد الأسطول أبي العباس أحمد الرنداحي([3]). ولما توفي الأمير أبو زكريا الحفصي وبويع ابنه الملقب بالمستنصر وجد السبتيون الفرصة للتخلص من تبعيتهم للحفصيين بعد أن ضاقوا ذرعا من ظلم وجور ابن أبي خالد، وتغافل ابن الشهيد، فاجتمع القائد الرنداحي مع الفقيه أبي القاسم العزفي([4]) الذي ترجع إليه أصول الأسرة العزفية وحرضه على التخلص من ابن خالد وابن شهيد وجعل رئاسة سبتة بيده، ووعده بأخذ الأمر على عاتقه وتحقيق هذه المهمة بنفسه ووافقه أبو القاسم العزفي. وقام الرنداحي بوضع خطة تم بموجبها القبض على ابن أبي خالد وقتله وتعليقه على سور المدينة، ونفي ابن الشهيد إلى الأندلس([5]). وأعلن أبو القاسم العزفي إمارته على سبتة واستقلاله بها وذلك في سنة 647هـ/1248م أيام الخليفة عمر المرتضى الموحدي (647-665هـ/1249-1266م)([6]). ثم قام بضم طنجة حيث تقدم أهلها بطاعتهم إليه عندما رأوا ضعف وتدهور سلطة الموحدين وظهور قوة المرينيين، فقام بإرسال قوة من الرجال والرماة على رأسهم القائد أبو الفضل العباسي وكان من كبار أعيان سبتة وبصحبته يوسف ابن محمد بن الأمين. وبعد توطيد الوضع في طنجة، عاد القائد أبو الفضل إلى سبتة وترك ابن الأمين واليا عليها([7]). وبعد مرور سنة، استبد ابن الأمين بطنجة وانشق عن العزفي ودعا للحفصيين أصحاب أفريقية (تونس) ثم للخليفة العباسي في بغداد وأخيرا لنفسه([8]). ولكن سرعان ما عادت طنجة إلى طاعة العزفيين، وذلك في سنة 665هـ/1266م إذ بعد أن ملك بنو مرين المغرب العربي داخل طنجة ثلاثمائة فارس منهم واستوطنوا فيها وضيقوا على أهلها وأمنعوا في إيذائهم، فطلب ابن الأمين منهم أن يكفوا أذاهم عن الأهالي مقابل دفع مبلغ من المال لهم، ولكنهم أضمروا الغدر لابن الأمين وقتلوه فثار عليهم عامة طنجة وقتلوهم واجتمعوا حول ابن (ابن الأمين)، ولكنهم خافوا من عقاب وقصاص بني مرين لهم، فخاطبوا أبا القاسم العزفي وطلبوا نجدته، فأرسل إليهم قواته برا وبحرا وأعاد طنجة إلى ملكه، وعين واليا عليها يعرف بابن حمدان يشاركه في حكمها وإدارتها الملأ من أشرافها([9]).
         وضم أبو القاسم العزفي إلى إمارته مدينة أصيلا حيث دخلتها قواته البحرية سنة 663هـ/1264م، وقامت بهدم أسوارها وقصبتها لأنه خاف أن يسيطر عليها العدو ويتمنع فيها([10]).
تطورات الأوضاع الداخلية في سبتة:
         استمرت رئاسة مؤسس الإمارة أبي القاسم العزفي مدة ثلاثين سنة حتى وفاته سنة 677هـ/1278م([11]). ثم خلفه في الحكم ابنه أبو حاتم أحمد بن محمد بن أحمد العزفي الذي دام حكمه سنة واحدة حيث تنازل عن الإمارة لأخيه أبي طالب عبد الله بن محمد بن أحمد العزفي([12]) الذي وصف بأنه كان من أهل الجلالة والصيانة، عظيم الهيئة والشأن، عالي الهمة وشديد البأس، معظما عند الملوك، بعيد النظر مطاع السلطان، حكم بلاده، وأدارها إدارة جيدة، ولكن حدث أن ثار عليه بعض أهله وأحاطوا بمركز حكمه، ولكنه لم يتخذ أي إجراء ضدهم سوى أنه خرج إليهم وتحدث معهم وأنكر عليهم فعلتهم، وسلمهم لقضاء الله سبحانه وتعالى، حيث قال لهم: "قال رسول الله e: كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل"([13]).
         واستمر حكم أبي طالب لسبتة مدة سبع وعشرين سنة حتى خلع سنة 705هـ/1350م، وتوفي مخلوعا في فاس سنة 713هـ/1313م وجاء خلعه بخيانة وغدر من الأمير محمد بن الأحمر المعروف بالمخلوع([14]) حيث وجه ابن عمه أبي سعيد فرج بن إسماعيل بن يوسف بن الأحمر الذي داهم سبتة بأساطيله واحتلها وقبض على بني العزفي ونقلهم إلى الأندلس([15]).
         ولكن هذا الاحتلال لم يدم طويلا، بل سرعان ما عاد العزفيون إلى بلدهم بعد أن استرد السلطان أبو الربيع سليمان (708-710هـ/1308-1310م) سبتة وأخرج بني الأحمر منها فاستأذنه بنو العزف بالسماح لهم بالعودة إلى المغرب والقدوم عليه فأذن لهم واستقروا بفاس([16]). ثم عادوا إلى حكم بلادهم في عهد السلطان أبي سعيد عثمان المريني (710-731هـ/1310-1330م) حيث تولى رئاسة الإمارة أبو عمر يحيى بن أبي طالب سنة 710هـ/1310م والذي كان على قدر كبير من الشجاعة، ولكن الظروف لم تكن تساعد على استرجاع بني العزفي لمجدهم الأول، ولهذا نجد أن الأمير أبا عمر لا يمكث في الإمارة إلا سنة وستة أشهر ثم يخلع سنة 711هـ/1311م، ويعود ثانية إلى حكم إمارته سنة 714هـ/131م، ويستمر في الحكم حتى وفاته سنة 719هـ/1319م([17]) وتولى الإمارة من بعده ابنه أبو القاسم محمد بن يحيى، وكان آخر أمراء البيت العزفي، فقد خلع بعد ستة أشهر من حكمه في سنة 720هـ/1320م وغادر إلى غرناطة ثم انتقل إلى فاس وعمل كاتبا لبني مرين، وزهد في تولي المناصب الكبرى في الحكم، فقد أراد السلطان أبو عنان فارس المريني (752-759هـ/1352-1358م) أن يستعمله على قسنطينة، لكنه اعتذر لبعد الشقة عن ولده وبلده، وبقي يعمل كاتبا بالحضرة المرينية حتى وفاته([18]).
         وتغلب على الإمارة من بعده ابن عمه محمد بن علي بن الفقيه أبي القاسم الذي كان يعمل قائدا للبحرية في سبتة مكان القائد يحيى الرنداحي الذي رحل إلى الأندلس. وقد اضطربت أحوال سبتة في عهده، واختلط الأمر على بني العزفي، فانتهز السلطان أبو سعيد المريني الفرصة وزحف بقواته إلى سبتة، وأسقط إمارة العزفيين وذلك في سنة 728هـ/1327م([19]).
العلاقة بين إمارة العزفيين ودولة الموحدين في المغرب:
         اتسمت العلاقة بين إمارة العزفيين ودولة الموحدين في المغرب بكونها علاقة طيبة قائمة على أساس التعاون والاحترام المتبادل بينهما. فقد تمتع الأمراء العزفيون بحكمة وكياسة. فعلى الرغم من الاستقلال شبه التام الذي كانوا يتمتعون به في إمارتهم، فإنهم كانوا على اتصال بمن بقي من البيت الموحدي معترفين بسلطانهم، فنرى مؤسس الإمارة أبا القاسم يخاطب الخليفة المرتضى في كل الأوقات، ويطلعه على أحوال إمارته. ففي بداية تأسيسه الإمارة أرسل بكتاب إليه يطلب منه إرسال مندوب من الموحدين للإشراف على حكم الإمارة فبادر المرتضى بإرسال ابن الشرقي. ولكن بعد أشهر أخرجه أبو القاسم من سبتة وكتب إلى المرتضى يشرح له أسباب ذلك، لما بدر من ابن اشرقي من أفعال مشينة، فصدق المرتضى قول أبي القاسم([20]).
         وفي سنة 655هـ/1255م غدر القطراني([21]) بالموحدين وانحاز إلى المرينيين وساعد الأمير أبا يحيى بن عبد الحق المريني على دخول سجلماسة واحتلالها والقبض على واليها، مقابل تعيينه واليا عليها. وقد نفذ الأمير أبو يحيى وعده وعينه واليا وجعل معه شخصا من بني مرين مع جملة من الفرسان والرجال([22]). ولكن بعد أن تعاظم أمره وكثر أتباعه وازدادت قوته، وجاءه خبر موت الأمير أبي يحيى المريني سنة 656هـ/1256م، ثار القطراني على الدولة المرينية واستبد بسجلماسة وفي الوقت نفسه، خاطب المرتضى الموحدي معتذرا له عما بدا منه من انحياز لبني مرين، ومتقدما له بطاعته وولائه لدولة الموحدين بشرط استقلاله في سجلماسة فوافقه المرتضى، وأرسل له الفقيه أبا عمر بن حجاج قاضيا، وجمعا كبيرا من جنده، وسيدا من الموحدين يسكن في سجلماسة من غير استبداد. وقد استقبل القطراني القاضي ابن حجاج والجند، وصرف السيد ومن كان معه من الموحدين. وكان قد اتفق المرتضى مع القاضي ابن حجاج وقائد الجند على قتل القطراني بالحيلة. وقد تمكن قائد الجند من قتله. وعندما هدأت أوضاع سجلماسة واستقرت، كتب المرتضى بخبر القضاء على القطراني إلى أبي القاسم العزفي([23]).
         وفي سنة 658هـ/1258م بعث أبو القاسم العزفي برسالة إلى المرتضى، وأهالي السواحل، يحذرهم فيها من الاستعدادات البحرية لنصارى قشتالة وملكهم في وادي إشبيلية بهدف احتلال مدينة سلا. فمن صدق بتحذير العزفي خرج من المدينة، ومن تأخر ولم يصدق به قتل أو أسر، بعد أن تمكن نصارى قشتالة من مداهمة المدينة والاستيلاء عليها، واستباحتها، حيث قتلوا من وجدوا فيها من الرجال، وأسروا النساء والأطفال، وخربوا المساجد والديار. وبعد أن وقع ما حذر منه العزفي، وجه الخليفة المرتضى كتابا إليه يشكره فيه على تحذيره من أمر النصارى، ويسأله أن يكون متيقظا من غدرهم([24]). وهذا بعض من فصول كتابه:
وإنا كتبناه إليكم - كتب الله لكم أحمد عاقبة وأجملها واكتف كلاءة وأكلأها وأن تعلموا أنا نعتد بولائكم الخالص، ونحفظ ما لكم ولسلفكم من السوابق والخصائص ونشكر نصائحكم التي ما زلتم إياها تبذلون وخدمتكم التي توالون وتصلون... والله يتولاكم بحفظه وصونه... وقد طرأ في مدينة سلا جبرها الله سبحانه واستنقذها ما قد اتصل بكم مما كنتم أبدا منه تحذرون وبه لعلمكم بزيادة العدو تنذرون... ووقع المحذور... وهو سبحانه يكافئ سعيكم على ما عرفتهم وحذرتهم لأهل السواحل وخوفتهم من فجأة العدو المخاتل... وإنا لنشكر لكم ذلكم...([25]).
         وأرسل المرتضى كتاب شكر إلى أبي القاسم العزفي تثمينا لما أبداه من جهد في تقديم النصيحة والحذر والتيقظ من الأعداء، عندما كشف سنة 658هـ/1258م، عن محاولة النصارى إخراج المسلمين من مدينة شريش([26]).
         وأخذ الخليفة المرتضى برأي أبي القاسم العزفي بإقامة المولد النبوي والاحتفال به، وقبل هديته وهي عبارة عن كتابه الموسوم الدر المنظم في مولد النبي المعظم([27]).
العلاقة بين إمارة العزفيين ودولة المرينيين في المغرب:
         بعد أن تم للسلطان أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني (656-685هـ/1256-1258م) إخضاع معظم أجزاء المغرب العربي وأنهى دولة الموحدين، بقيت سبتة وطنجة وسجلماسة خارجة عن حكمه وسلطته، فقرر إخضاعهم قبل أن يبدأ بمهمة الجهاد في الأندلس حتى لا تمتد الثورة من هذه المعاقل إلى باقي المغرب. فبعد أن عاد من حصار تلمسان، توجه لحصار طنجة التي كانت تحت حكم العزفيين وحاصرهم مدة ثلاثة أشهر ثم ساعده على فتحها سهول مسلكها ومساعدة بعض جنودها الذين رفعوا راية الاستسلام ونادوا بشعار بني مرين بسبب خلاف وقع بينهم. فاستغل الجند المريني الفرصة، وسارعوا إليهم وتمكنوا من اقتحام طنجة عنوة وإعطاء الأمان لأهلها وذلك في سنة 672هـ/1273م([28]).
         ولما فرغ من أمر طنجة، أرسل ولده الأمير يوسف إلى سبتة فحاصرها، ولكنها صمدت ثم وقعت معاهدة صلح بين الأمير أبي العباس العزفي والسلطان أبي يوسف المريني بشرط أن يحتفظ الأول بحكم سبتة واستقلال بني العزفي فيها لقاء خراج سنوي يؤديه إلى السلطان المريني([29]).
         ثم وضع العزفيون يدهم بيد المرينيين في جهادهم ضد النصارى في الأندلس، مدفوعين بروح الغيرة الإسلامية لا بقصد التبعية للمرينيين([30]). ولكن بعدما تعرضت إمارتهم إلى الاحتلال من قبل بني الأحمر واستردادها من قبل بني مرين([31])، تحولت العلاقة من علاقة استقلال وتعاون إلى علاقة طاعة وتبعية حيث قام المرينيون بعدة محاولات من أجل استرداد سبتة من أيدي بني الأحمر: فقد قام السلطان أبو يعقوب يوسف (685-706هـ/1286-1306م) بإرسال جيش بقيادة ابنه الأمير أبي سالم، لكنه فشل([32])؛ ثم نهض السلطان أبو ثابت عامر (706-708هـ/1306-1308م) سنة 707هـ/1307م، قاصدا سبتة التي كان عليها عثمان بن أبي العلاء المعين من قبل بني الأحمر حيث قام في محرم سنة 708هـ/1308م بإرسال غارات على نواحي سبتة، ثم أمر باختطاط وبناء مدينة تطاوين([33]) من أجل اتخاذها قاعدة لجيشه المعد لمهاجمة سبتة... وفي الوقت نفسه أرسل كبير الفقهاء أبا يحيى بن أبي الصبر إلى ابن الأحمر يفاوضه في أمر التخلي عن سبتة، وبينما كان ينتظر الجواب مرض السلطان أبو ثابت وتوفي في طنجة في شهر صفر 708هـ/1308م، وتولى الحكم من بعده أخوه أبو الربيع الذي جهز جيشا كبيرا بقيادة تاشفين يعقوب الوطاسي، لاسترداد سبتة بعد أن ضاق أهلها ذرعا بحكم بني الأحمر، منتهزا فرصة غياب الوالي عثمان بن أبي العلاء وعبوره إلى الأندلس بقصد الجهاد. ولما أحس أهل سبتة بقدوم الجيش المريني، تنادوا بشعار بني مرين وثاروا على من كان بسبتة من حامية ابن الأحمر وأخرجوهم منها، وذلك في سنة 709هـ/1309م. وعندما وصل الخبر إلى ابن الأحمر (أبي الجيوش نصر بن محمد) خشي من بني مرين وأرسل وفدا إلى السلطان أبي الربيع يطلب منه الصلح ويسترضيه بالتنازل له عن الجزيرة الخضراء ورندة وحصونها. وقد وافق أبو الربيع على الصلح ووطد علاقته بابن الأحمر بزواجه من أخته، وإرسال المدد والمساعدة له بتجهيز جيش وإرساله إلى الأندلس([34]).
         أما بنو العزفي، فقد استأذنوا السلطان أبا الربيع في الرجوع إلى المغرب فأذن لهم واستقروا في فاس، وكان أبو زكريا يحيى، وأبو زيد عبد الرحمن ابنا أبي طالب عبد الله بن أبي القاسم... أحمد العزفي يرتادون مجالس العلم بمسجد القرويين في فاس، وهناك التقيا بالسلطان أبي سعيد أيام حكم أبيه من قبله، وتودد إليهما وربطتهما به علاقة صداقة قوية. ولما اعتلى كرسي الحكم، رعى لبني العزفي تلك الصداقة وعقد لأبي زكريا على سبتة وردهم إليها، فقدموها سنة 710هـ/1310م وأقاموا فيها دعوة السلطان أبي سعيد والتزموا طاعته([35]).
         ولكن العزفيين أبعدوا عن إمارة سبتة سنة 713هـ/1313م، عندما فوض السلطان أبو سعيد جميع شؤون الدولة إلى ابنه الأمير أبي علي، فقام بتعيين ابن زكريا حيوة بن أبي العلاء القرشي على سبتة وعزل أبا زكريا يحيى العزفي، وأبعده إلى فاس وبصحبته والده أبو طالب وعمه أبو حاتم، واستقروا هناك. ولكن بعد انتفاضة وتمرد الأمير أبي علي على أبيه في فاس، ترك كل من أبي زكريا يحيى بن أبي طالب العزفي وأخيه أبي زيد، فاس والتحقا بالسلطان أبي سعيد الذي قام بإعادة أبي زكريا ثانية إلى إمارة سبتة في سنة 714هـ/1314م([36]) بعد أن أخذ والده محمد بن أبي زكريا رهينة عنده من أجل استمرار طاعة العزفيين لدولة بني مرين، ولكن أبا زكريا خلع طاعتهم في سنة 716هـ/1316م، وأعلن استقلاله بسبتة، فوجه السلطان أبو سعيد جيشا بقيادة الوزير إبراهيم بن عيسى البريناني فحاصر سبتة([37]).
         وتقدم إليه أبو زكريا يعلل له سبب خلعه طاعة المرينيين لحبس ولده عنه ومفارقته له، وأنه إذا ما عاد إليه فإنه يعود إلى طاعة المرينيين، فأعلم الوزير إبراهيم البريناني السلطان بذلك، فأرسل إليه بالولد ليسلمه إلى أبيه([38]). وعاد أبو زكريا في السنة نفسها إلى طاعة السلطان أبي سعيد، الذي قدم إلى طنجة لاختبار طاعة أبي زكريا فبان له صدقه وأبقاه على إمارة سبتة. واشترط أبو زكريا على نفسه حمل الجباية والهدايا إلى السلطان في كل سنة، واستمر الحال على ذلك إلى أن توفي الأمير أبو زكريا سنة 720هـ/1320م([39]).
         وتولى الحكم من بعده ابنه الأمير محمد بن أبي زكريا([40]) الذي تغلب عليه ابن عمه محمد بن علي بن الفقيه أبي القاسم قائد البحرية في سبتة. وفي عهده اضطربت ظروف سبتة وأحوال بني العزفي، فاستغل السلطان الفرصة لضم سبتة وإنهاء حكم العزفيين وذلك سنة 728هـ/1327م([41]).
العلاقة بين إمارة العزفيين ودولة بني الأحمر في غرناطة:
         تعرضت سبتة في عهد العزفيين لخطر بني الأحمر، فقد كانت العلاقة بين الأمير أبي القاسم العزفي والأمير أبي عبد الله بن الأحمر علاقة فتنة وعداء. ففي سنة 662هـ/1263م، وجه ابن الأحمر حملة بحرية بقيادة المدعو ظافر لمحاصرة سبتة والاستيلاء عليها، وتقدمت السفن البحرية ودخلت ميناء سبتة على شكل دفعات وأحكموا الحصار على سبتة وقطعوا الطرق الواصلة إليها فوجه أبو القاسم العزفي أمره إلى قائد البحرية أبي العباس الرنداحي بأخذ الاستعدادات وتعمير جميع سفن سبتة لمواجهة العدو. والتحم الفريقان. وكان النصر للرنداحي حيث أسر وقتل عددا كبيرا  منهم من ضمنهم القائد ظافر حيث ألقيت جثته في البحر، وطيف برأسه في سبتة، وقد سمي هذا العام في سبتة بعام ظافر([42]).
         وعلى الرغم من علاقة العداء، لم يتوان العزفيون -بدافع الغيرة الإسلامية- عن تقديم يد العون والمساعدة لبني الأحمر في ظروف المحن والشدة. من ذلك مثلا ما حصل في أواخر أيام الأمير أبي القاسم العزفي، حيث أرسل محمد الفقيه بن الشيخ محمد بن يوسف بن الأحمر وفدا إلى السلطان المريني يعقوب بن عبد الحق يشرح له مخاطر النصارى التي تحيط بالبقية الباقية من الأندلس، فسارع السلطان يعقوب لنصرته في سنة 673هـ/1274م، وخرج من فاس إلى طنجة وطلب معونة أبي القاسم العزفي، فزوده بعشرين سفينة من الأسطول السبتي. وقد حقق الأندلسيون بهذا الأسطول النصر المؤزر([43]).
         وفي سنة 678هـ/1229م، حوصرت الجزيرة الخضراء من قبل أساطيل ملك النصارى ألفونسو العاشر حاكم قشتالة، فأرسل ابن الأحمر يطلب النجدة من السلطان المريني يعقوب بن عبد الحق الذي قام بتوجيه نداء إلى جميع الثغور يطلب منهم تزويده بالسفن الحربية. فكان أمير سبتة أبو حاتم العزفي أول من لبى نداء السلطان وقام بتزويده بخمسة وأربعين سفينة، كما استنفر جميع أهل سبتة وحثهم على الجهاد. فركبوا البحر بأجمعهم ولم يبق بسبتة إلا النساء والأطفال والشيوخ([44]).
         وفي سنة 684هـ/1285م عبر الفقيه قاسم بن الأمير أبي القاسم العزفي على رأس خمسمائة رام من أهل سبتة إلى الأندلس برسم الجهاد إلى جانب السلطان المريني يعقوب، وقد قاموا بالإغارة على حصن من حصون القشتاليين، وسبوا ثمانين شخصا، وكرروا إغارتهم على حصون أخرى وغنموا وقتلوا عددا كبيرا منهم([45]).
         وفي السنة نفسها بعث السلطان حفيده الأمير أبا علي منصور بن عبد الواحد على رأس مجموعة من المجاهدين، كان من بينهم مائة من رماة سبتة، إلى حصن من حصون النصارى كان بينه وبين المحلة نحو ثمانية أميال، كان أهله يقومون بقطع الطريق على من خرج من المحلة منفردا أو في قلة، فزحف المجاهدون نحو الحصن وتمكنوا من اقتحامه عنوة، وقتلوا وأسروا عددا كبيرا من الرجال وغنموا ما كان فيه، ثم قاموا بهدمه ونسفه([46]).
         ثم وصلت في السنة نفسها أخبار تقدم الأسطول النصراني وحصاره لمضيق جبل طارق حتى يمنع عبور السلطان يعقوب وهو في طريقه إلى المغرب، فعاد مسرعا إلى جزيرة طريف واستنجد بأسطول المغرب، وكانت سبتة أول من جهزته بالإمدادات إلى جانب طنجة ورباط الفتح وموانئ الريف، زيادة على إمدادات الجزيرة والمنكب وطريف. واستطاع هذا الأسطول الذي بلغ تعداده ستا وثلاثين سفينة رد أساطيل العدو، وانقلب على أعقابه؛ مما مكن السلطان من الرجوع إلى الجزيرة الخضراء ليستعرض أسطوله الذي قام بمناورات حربية أمامه([47]).
         وفي سنة 703هـ/1304م، تواطأ ابن الأحمر محمد بن الفقيه المعروف بالمخلوع مع ملك قشتالة فرديناندو الرابع على مسلمي أهل المغرب، وأوعز إلى ابن عمه أبي سعيد فرج بن إسماعيل صاحب مالقة بمداهمة سبتة بالحيلة، فاحتلها بغتة وذلك سنة 705هـ/1305م وقبض على بني العزفي وحاشيتهم ونقلهم إلى مالقة ثم غرناطة، واستبد أبو سعيد بأمر سبتة وأطرافها وسد جميع ثغورها. واستمر حكم بني الأحمر لسبتة حتى سنة 709هـ/1309م([48]) عندما استرجعت من قبل السلطان المريني أبي الربيع، وعودة بني العزفي إليها([49]).
الدور الحضاري لإمارة العزفيين:
         احتلت أسرة العزفيين مكانة علمية مرموقة لما كان لأفرادها من اهتمامات علمية متنوعة خاصة في المجال اللغوي والأدبي والديني. فقد ورثوا الفضل والعلم صغارهم عن كبارهم. لذا فقد تمتعت سبتة في عهدهم بنشاط علمي ملحوظ لحبهم ومراعاتهم للعلم والعلماء. فقد كان والد مؤسس الإمارة أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد العزفي المولود سنة 557هـ/1161م، عالما وقاضيا ومحدثا. إذ قيل في حقه:
برز علما وعملا ودراية ورواية، وجمع خصالا من الفضل جمة، ولزم التدريس بجامع سبتة مدة عمره، ورحل الناس إلى الأخذ عنه والاستفادة منه([50]).
وقد نظم شعرا في نصرة أهل الحديث حيث قال:
أهل الحديث عصابة الحــــق          فازوا بدعوة سيد الخـلــــق
فوجوههم زهر مـنـضــــرة             لألاؤها كتــألــــق الـبـرق
يـاليتنـي معـهم فيدركــــني             ما أدركوه بها من السبق([51])
         وكان أول من أحدث ودعا إلى الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في المغرب العربي. وقد ألف كتابا في هذا الموضوع بعنوان "الدر المنظم في مولد النبوي المعظم"، ولكنه توفي سنة 636هـ/1238م، قبل أن يكمله([52]).
         وقام ابنه مؤسس الإمارة أبو القاسم العزفي بإكمال الكتاب وإخراجه بنسختين صغرى وكبرى. وهو يميز في هذه الأخيرة كلام والده فيترجم عليه بـ"قال المؤلف"، ثم يعنون زياداته بكلمة "قلت"([53]). وتدريسه بنفسه، وإعطاء الإجازة فيه، وكان من الذين أجازهم الخطيب أبو علي بن الخطيب أبي فارس بن غالب الجمحي مع جماعة من أهل سبتة وأعيانها، حين قرأوه عليه بالجامع الأعظم في سبتة سنة 657هـ/1258م([54]).
         وكان أبو القاسم يقيم احتفالا كبيرا في يوم المولد النبوي الشريف حيث كانت تقرأ فيه القصائد التي تمتدح النبي e وآل البيت، وتقام الولائم الكبيرة لإطعام أهالي سبتة أطيب الطعام، كما كان يقوم بتوزيع الهدايا على الأطفال ليلة المولد من باب الإحسان([55]).
         وقد أصبح الاحتفال بالمولد النبوي تقليدا سنويا ليس في سبتة فحسب، بل في أنحاء المغرب العربي، حيث كان الشعراء الشعبيون في دولة بني مرين يتبارون بينهم لإظهار براعتهم الشعرية في مناسبة ذكرى المولد النبوي. فقد كانوا يتجمهرون صباح يوم المولد في الميدان الرئيسويلقون أشعارهم واحدا تلو الآخر، والفائز منهم يحظى بلقب أمير الشعراء. كذلك كان السلطان المريني يقيم احتفالا بهذه المناسبة يستدعي له رجال العلم والأدب لإلقاء قصائدهم الشعرية، وكان يجزل العطاء للفائزين ولسائر الشعراء([56]).
         وقام أبو القاسم العزفي بإهداء كتاب "الدر المنظم" إلى الخليفة الموحدي المرتضى (646-668هـ/1248-1269م) حيث كان أديبا وشاعرا ظريفا فردد في شعره ما دعا إليه أبو العباس العزفي في سبتة من إقامة المولد النبوي والاحتفال به حيث قال:
وافى ربيع قد تعطر نـفـحــــه                   أزكى من المسك العتيق نسيما
بولادة المختار أحمد قد بـــــدا                  يزهو به فخرا وحاز عظيمــــا
بشرى بشهر فيه مولده الـذي                  ملأ الزمان علاؤه تعظيمــا([57])
         وكان لأبي القاسم العزفي اهتمامات علمية مختلفة. فقد كان فقيها أصوليا نحويا، لغويا، محدثا، عارفا بالرواية وشاعرا مجيدا([58]). وهذه أبيات من شعره في آل البيت المصطفى e.
ذرية المصطفى إنـي أحـبـــــــكم               وحبكم واجب في الدين مفتـرض
فليس يبغضكم، لا كان باغضكم                إلا امرؤ مارق في قـلـبـه مـــرض
وحسبكم شرفا في الدهر أنـــكم                خير البرية هذا ليس يعـتــــــرض
ولست أطلب من حبي لكم ثمـنـا               إلا الشفاعة فهي السؤل والغـرض([59])
         وتتلمذ على يده العديد من الفقهاء والأدباء بينهم علي بن عبد الله بن محمد بن يوسف بن أحمد الأنصاري الملقب بابن قطرال([60]).
         وقد امتدح أبو القاسم العزفي من قبل الفقيه والأديب إبراهيم بن أبي بكر بن عبد الله الأنصاري التلمساني، فقال:
أرأيت من رحلوا ورزقوا العـيــــا    ولا نزلوا على الطلول حسيســـا
أحسبت سوف يعود نسف ترابـها    يوما بما يشفى لديك نسـيـســـــا
هل من مؤنس نارا بجانب طورهــا  لانيها أم هل تحس حسـيـســا([61])
         وكان لابنه الأمير أبي حاتم العزفي اهتمامات فقهية، وكان شيخا ومعلما لمحمد بن أحمد بن إبراهيم بن محمد التلمساني الأنصاري([62]). وقد امتدحته الأستاذة الأديبة الشاعرة سارة بنت أحمد بن عثمان الجلبية لاهتمامه وحبه للعلم والعلماء، إذ قدمت سبتة في أواخر القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي. ومما خاطبت به أبا حاتم:
بشراك يا نفس نلت السؤل والأمــلا          وعاد دهرك بعد الجور قد عـــــــدلا
ونلت ما كنت طول الدهر تـأمـلــــه            وعنك أضحى العناد والبؤس مرتحــلا
وقد وصلت إلى بحر الندى علم الهدى                 أبي حاتم ابن الســادة الفـضـــــــــلا
هـو الـذي صـدره للعـلـم مـنـشــرح           وأودع الله فـيـه عـلم مـا جـهـــــلا([63])
         أما أخوه الأمير أبو طالب بن أبي القاسم العزفي، فكان من أهل الجلالة والصيانة، حافظا للقرآن والحديث، عالما بالتاريخ، تتلمذ على يد الأستاذ أبي الحسين بن أبي ربيع([64]).
         وكان ابنه الأمير يحيى بن أبي طالب العزفي يجمع في شخصه اهتمامات علمية كبيرة. فقد كان فقيها فاضلا، عارفا بالأصول والفقه والحديث، واللغة والمنطق([65])، ومتتبعا طريقة أصحاب الحديث رواية وضبطا وتقييدا وتخريجا مع براعة في الخط، وكان شاعرا مجيدا ذا فكاهة. وقد تتلمذ على يد مشايخ في سبتة وخارجها قراءة وسماعا وإجازة. فممن أخذ منهم من أهل سبتة أبو إسحاق التلمساني، ومن الجزيرة الخضراء أبو جعفر بن الخميس([66]).
         وسار ابنه الأمير أبو القاسم محمد بن يحيى... العزفي على سيرة والده حيث كان فقيها وشاعرا مكثرا، مليح الفكاهات وشاحا. وقد بز أهل زمانه في الموشحات؛ إذ روي عنه أنه أراق الدواة في محفل جليل فتدارك فعلته حيث قال:
ألا يا كرام الناس غضوا جفونـكم             فإني من الفعل القبيح مريـــــــب
هرقت دواة وهي كالكأس بينـكم               وللرضى من كأس الكرام نصيـب([67])
         وقد درس الطب ودون فيه، ووصف أنه كان من أهل الظرف والبراعة والطبع المعين، والذكاء المتوقد([68]).
         انتقل من سبتة إلى غرناطة بعد أن خلع عن حكمها سنة 720هـ/1220م، وهناك اشتهر أدبه، لكنه لم يطل المقام حيث عاد إلى المغرب واستقر في فاس وعمل في الخطط الفقهية وكتب عن ملوك بني مرين([69]).
         ومن نظم شعره ما قاله في قاضي مدينة فاس محمد بن عبد الرزاق الجزدلي:
وليت بفاس أمور الـقـضــــا           فأحدثت فيها أمورا شنيعـــه
فتحت لنفسك باب الفتـوح              وغلقت للناس باب الشريعه
فبادر مولى الورى فـــــــاس          بعزلك عنها قبيل الذريـعـــه
         ومن شعره قصيدة على قافية لام الألف من سبعة وسبعين بيتا وضعها للأمير المريني أبي سالم ومطلعها:
إذا لم أطق نحو نجد وصــــــولا                بعثت الفؤاد النهار ســــــؤولا
وكم حل قلبــــي رهينـا بـهــا           غداة نوى الركب فيها النزولا([70])
         أما ابنه الأمير محمد بن محمد بن يحيى العزفي المكنى بأبي يحيى، فكان محبا لسماع الشعر ونظمه وكان صحبته بفاس في حضرة ملوك بني مرين. ومن شعره قصيدة تائية في بحر الكامل في أربعين بيتا رفعها لأبي فارس عبد العزيز بن أبي الحسن المريني، بمدينة تلمسان حيث دخلها وفر حاكمها أمامه ومطلعها:
حن الشوق إلى ديار أحـبـتـــــه                فسقى الثرى شوقا لذاك بدمعته
وامتازه وجدا هبوب نسـيـمـــا                 لما سرى بيديه طيب تحـيـتــــــه([71])
         وكان الأمير عبد الرحمن بن أبي طالب بن أبي القاسم العزفي المكنى بأبي القاسم فقيها ومحدثا، روى عن أبي جعفر بن الزبير، والقاضي ابن عبد الملك، وابن خميس وغيرهم. وقد ألف كتابا بعنوان "الإشادة بذكر المشتهرين من المتأخرين بالإفادة"([72]) لذي الوزارتين أبي عبد الله محمد بن الحكيم الغرناطي([73]). ولكن هذا الكتاب لم يصلنا وعد من الكتب المفقودة. ولو كان موجودا لقدم لنا ترجمة لجمهرة كبيرة من رجال القرن السابع، وأوائل القرن الثامن الهجري، مغاربة وأندلسيين، إذ لا يعرف من كتابه هذا إلا بعض التراجم التي نقلت عنه([74]).
         وممن ترجم له في كتابه هذا، الشاعر ابن الخبازة الخطابي الذي قدم له ترجمة تعد من أوفى التراجم([75]). وقدم ترجمة لقاضي الموحدين أبي حفص الأغماتي؛ إذ أشاد بمكانته والثناء عليه، ووصفه بالعلم والفضل والعدل في القضاء إلى جانب براعته في نظمه للشعر والنثر، وتطرق إلى يائيته الشهيرة التي ذكر فيها مدحه للنبي e، وذكر شمائله الكريمة ومعجزاته الباهرة، بأبيات تربو على ثلاثين ومئة بيت، وذكر أيضا مرثيته الرائية لابن الوزيريين الجد في خمسة وأربعين بيتا وغير ذلك كثير([76]). وترجم لأخيه أبي العباس أحمد العزفي فقال فيه: "هو أخي الذي بإخائه أزهى وأنتخي، وكبيري المعتمد بإجلالي وتوقيري. ولولا خوفي من أن يلزمني ما لزم مادح نفسه، لأطنبت في وصف ما له من المحاسن التي فاق بها أبناء جنسه..." ([77])، وأورد له أشعارا منها ما قاله من مدح الوزير ابن الحكيم:
ملكت رقي بالجمال فاجـمــــل                   وحكمت في قلبي بجورك فاعدل
أنت الأمير على الملاح ومن يجـر             ه في حكمه إلا جفونك يـعـــزل
إن قيل أنت البدر فالفضل الذي                 لك بالكمال ونقصه لم يـجـهـــل([78])
         كما أورد ابن القاضي أبيات شعر خاطب بها أبا العباس العزفي حاكم غرناطة عند تغريبهم من سبتة إليها حيث قال:
لكم حمى في فؤاد غير مقروب                 فضائع في هواكم كل تأنيــب
إن كان ما ساءني مما يسركم                  فعذبوا فقد استعذبت تعذيبـي
         وأورد شعرا في حنينه إلى وطنه حيث قال:


لـي في سبتة سكــن            حبه اضغلي سكــن
فهو يـزداد جــــده               مع إبلائه الزمـــــن
أصبح القلب عنده              وبغرناطـة الـبـــدن([79])
         وقد مدح العزفيون من حل بسبتة. ومنهم الشاعرة الأديبة سارة بنت أحمد بن عثمان، ومما خاطبت به الأمير أبا طالب عبد الله العزفي قولها:
مولاي بو طالب يا معدن الحكم                وكعبة المجد والعلياء والكـــــرم
ومن له شرف من تحته زحـــــل               أنـوار سـؤدده نـار على عـلـــم
بان الرشاد بكم في الخلق قاطبـة              ولم يكن قبلكم إلا أخا عـــــدم([80])
         ومن الشعراء الذين مدحوا العزفيين ابن خميس التلمساني حيث قال:
بنو العزفيين الأولى من صدورهم             وأيديهم تملأ القراطيس والطـرخ
رياسة أخيار وملك أفـاضـــــــل                كرام لهم في كل صالحة رضـــخ
إذا ما بدا منا جفاء تعطـفــــــوا                علينا وإن حلت بنا شدة رخــوا([81])
سقوط إمارة العزفيين:
         بعد وفاة الأمير أبي زكريا يحيى بن أبي طالب العزفي سنة 719هـ/1319م، تولى الحكم ابنه الأمير أبو القاسم محمد بن أبي زكريا العزفي، لكنه لم يدم طويلا في حكمه إذ خلغ سنة 720هـ/1220م، وانتقل إلى غرناطة([82]) وسيطر على الإمارة ابن عمه محمد بن علي بن الفقيه أبي القاسم الذي خلف يحيى الرنداحي في قيادة الأساطيل لسبتة. وقد عمت الفوضى واضطربت أحوال سبتة في عهده، فانتهز السلطان المريني أبو سعيد الفرصة، وجهز جيشا قاده بنفسه وتوجه نحو سبتة، فتمكن من احتلالها، وذلك في سنة 728هـ/1327م. فبادر بنو العزفي وجموع أهالي سبتة بتقديم فروض الطاعة والولاء للسلطان أبي سعيد الذي قام بتعيين كبار رجالاته وخواص مجلسه في إدارتها، إذ عين حاجبه عامر بن فتح مدين العثماني على جبايتها، والنظر في مبانيها وإخراج الأموال للنفقات فيها وكافأ الملأ من مشيختها بتقديم الهدايا والإقطاعات لهم، ثم عاد إلى عاصمته سنة 729هـ/1328م([83]).
         وبذلك انتهى دور هذه الإمارة في سبتة التي استمرت ما يقارب قرنا من الزمن، تأرجح حكم العزفيين فيها بين القوة والضعف، مما أثر على طبيعة العلاقة بينهم وبين الدولة المرينية، تلك العلاقة التي تأرجحت هي أيضا بين علاقة استقلال وتعاون وعلاقة طاعة وتبعية.
         وجمع العزفيون بين العلم والسياسة في حكمهم إمارة سبتة، وبرز فيهم العديد من رجالات اللغة والأدب والفقه، مما انعكس إيجابا على مجمل النشاط العلمي ورعايتهم المتميزة للعلم والعلماء في هذه الإمارة.


([84])
وفي عهد ألفونسو السابع تولى أسقفية طليطلة الأسقف ريموند (526-547هـ/ 1131-1152م). فقام هذا الأسقف بدور كبير في ازدهار الترجمة نقل كثيرا من الآثار العربية إلى اللاتينية، وتولى بعنايته طائفة من المترجمين والكتاب عرفت في التاريخ بمدرسة المترجمين الطليطليين، وكان كثيرا ما يحفزهم على العمل ويشجعهم على الترجمة ويبذل لهم على ذلك الصلات والعطايا الجزيلة. فتم عن طريق هؤلاء المترجمين ترجمة مقدار ضخم من التراث العلمي الإسلامي في الفلك والطب والكيمياء والطبيعة والمنطق والرياضيات والأدب وغيرها([85]).
         وقد ساعدت هذه الجمعية على دفع عجلة الترجمة، وتركت أثرا واضحا للطب الإسلامي في أوربا اللاتينية، وبدأت تظهر جامعات أوربية تعنى بالطب الإسلامي مثل جامعة نابولي وباريس وبولونيا وغيرها. وفي هذه الجامعات لمعت أسماء الأطباء المسلمين الرازي وابن سينا والزهراوي، وأصبحت كتبهم مراجع أساسية لطلاب هذه الجامعات وأساتذتها. وصارت الأدوية والوصفات الطبية وأدوات الجراحة الإسلامية متداولة في أروقة هذه الجامعات حتى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي.
         وفي القرن الثاني عشر الميلادي بلغت حركة الترجمة من العربية غايتها من النشاط، فترجم عدد كبير من الكتب الطبية المشهورة، أو أعيد ترجمة الكتب التي كان ترجمها قسطنطين الإفريقي ترجمة رديئة أو ناقصة. وكانت معظمها على يد أشهر المترجمين الأوربيين وأكثرهم نشاطا وهو جيرارد الكريموني (1114-1187م) الإيطالي الذي جاء إلى طليطلة وانضم إلى مجموعة المترجمين الذين كانوا تحت رعاية رئيس أساقفتها ريموند. ومن هؤلاء المترجمين ماركوس الطليطلي، وغنديسلاوي، ويوحنا الإشبيلي؛ ومن الأجانب روبرت الرتيني، وأديلارد الباثي، وألبرت، ودانيال مورلي وهرمان الدلماشي، وكانت طليطلة قد سقطت في أيدي النصارى الإسبان في سنة 1085م، فنشطت فيها حركة الترجمة المنظمة. وعرفت هذه الحركة بمدرسة طليطلة. وجاء إليها بعض العلماء الإنجليز والطليان والألمان، ليتعلموا العربية وينهلوا من منهل الثقافة العربية فيها.
         فمما ترجم جيرارد الكريموني من كتب الطب، "القانون في الطب" لابن سينا، وكتاب "التصريف لمن عجز عن التأليف" (قسم الجراحة) للطبيب الجراح الأندلسي أبي القاسم الزهراوي، وكان كتابا تعليميا زهاء خمسة قرون في أوربا، وكتاب "التذكرة في طب العيون وجراحتها" لعلي ابن عيسى الكحال الدمشقي، وعرف هذا المؤلف في أوربا اللاتينية باسم Haly، وترجم معه كتاب عمار الموصلي في طب العيون أيضا، وقد استخدما معا في جامعات أوربا حتى القرن الثامن عشر، وكتاب "المنصوري" للرازي، وقد ذاعت المقالة العاشرة منه عن الحميات ذيوعا كبيرا في أوربا، وطبعت عدة مرات([86]). وقد بلغ ما ترجمه جيرارد زهاء مائة كتاب ويقال بأن بعضها من نتاج تلاميذه، وبعضها بالاشتراك مع غيره خاصة غالب (Gallipus)([87])، وهو مستغرب وكان نزيها وذا كفاءة عالية في الترجمة وحسن الاختيار للكتب التي ترجمها. وكان موسوعيا في الترجمة حيث قام أيضا بترجمة كتب في الطب كالفلك والرياضيات والأدب.
         وظل حال الترجمة في طليطلة على هذا الوضع حتى القرن السابع الهجري (القرن الثالث عشر الميلادي)، حيث ظهر الملك ألفونسو الحكيم (650-683هـ/1252-1284م) الذي قام بجهود جبارة في الترجمة والاقتباس عن العلوم والمعارف العربية إلى اللغتين اللاتينية والقشتالية.
         وكان يعمل لديه عدد من العلماء المسلمين والمسيحيين واليهود. وقد أنشأ ألفونسو الحكيم معهدا للدراسات اللاتينية العربية سنة 652هـ/1254م في إشبيلية؛ كما اتجه اهتمام ألفونسو الحكيم إلى تدوين واسع للأحداث العامة تحت نظره، وكان اعتماده في ذلك على مصادر التاريخ العربي ووثائقه، كما ركز جهده على ترجمة المصنفات والآثار العلمية في الفلك([88]).
         وفي القرن الثالث عشر الميلادي ترجم فرج بن سالم أشهر الكتب الطبية العربية وأوسعها بعد "القانون" لابن سينا، وهو كتاب "الحاوي" لأبي بكر الرازي، كما ترجم في هذا القرن كتاب "التيسير في المداواة والتدبير" لابن زهر الأندلسي الذي كان أحد أعلام الطب البارزين في الأندلس، وبالتحديد في العصر الموحدي الذي شهد نهضة طبية رائدة؛ وهو الطبيب أبو مروان عبد الملك بن زهر المتوفى سنة 557هـ والذي ترك لنا مؤلفات جليلة مشهورة كان من أبرزها هذا الكتاب الذي ركز فيه على فكرة أن التجربة خير وسيلة لاكتشاف الأمراض وعلاجها، مما قاده إلى الخروج بآراء مبتكرة تقوم على الحقائق الثابتة. وقد تنبه الأوربيون لأهمية هذا الكتاب منذ القرن الثالث عشر الميلادي، حيث ترجم إلى العبرية أولا ثم إلى اللاتينية. وصار هذا الكتاب أحد المصادر المهمة التي كانت تدرس في المراكز الطبية المشهورة في أوربا حتى القرن الثامن عشر الميلادي([89])، وكان قد ترجمه جون الكابوني (John of Capoa). ومن أهم الكتب الطبية العربية التي ترجمت خارج إسبانيا كتاب "الكليات" لابن رشد الفيلسوف الطبيب الأندلسي المشهور، وقد ترجمه أحد المترجمين غير المشهورين، بوناكوسا (Bonacosa) من بادوا (Padua) بإيطاليا سنة 1255م بعنوان (Colliget) وفصوله عن التنفس تمتاز بالنقد الأصيل لنظرية جالينوس([90]).
         ولم يكد القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي يؤذن بالزوال حتى انتهى العصر الذهبي للترجمة من العربية إلى اللاتينية، وإن بقيت الترجمة حتى القرن الحادي عشر الهجري/السابع عشر الميلادي قائمة. غير أن ما ترجم حتى نهاية القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي يعتبر بحق مفتاح النهضة الحضارية والازدهار العلمي والفكري لأوربا([91]).
         وجدير بنا أن نتحدث هنا عن تلك المدرسة الطبية التي أدت دورا مهما في نقل ألوان التراث الطبي العربي الإسلامي إلى أوربا. وهذه المدرسة هي مدرسة مونبيليه بجنوب فرنسا. وقد ذاعت شهرتها في دراسة الطب منذ القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، وكان يعيش بهذه المدينة التي تنتسب إليها المدرسة طوائف كبيرة من العرب واليهود بالإضافة إلى المسيحيين الذين يجيدون اللغة العربية. وفي ظل شيء من التسامح الديني، عاشت تلك الطوائف معا في خدمة العلم وترجمة كتب الطب العربية وتدريسها. وكان لهذه المدرسة في أوائل القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي روابط وصلات متينة مع مراكز الطب العربية في جنوب الأندلس، وهو ما يؤكد عظم المهمة التي تولتها هذه المدرسة في نشر المعارف الطبية العربية في أوربا([92]).
         وقد قام بتأسيس هذه المدرسة الكاردينال كونراد سنة 1220م ونظمها على شبه مدارس الطب الإسلامية. واحتل الطب الإسلامي مركز الصدارة في برنامج التدريس فيها طيلة القرن الثالث عشر والرابع عشر، فكان الأساتذة يشرحون كتب ابن سينا والرازي وأبي القاسم الزهراوي. وكانت هذه المدرسة على اتصال دائم بالمدارس العربية في جنوب إسبانيا، الأمر الذي يؤكد التأثير الفاعل لمدرسة مونبليه على تطور الطب الأوربي على الطريقة العربية([93]).
         ولعل أهم ما تميزت به هذه المدرسة الطبية الشهيرة ما ضمته من مخطوطات طبية عربية كثيرة في الوقت الذي لم يكن في مكتبة جامعة باريس سوى تسعة كتب طبية أهمها "الحاوي" للطبيب المشرقي الرازي.
         وكان لما صنفه بعض أطباء الأندلس أثر عظيم في ازدهار الدراسات الطبية في أوربا. فمنهم الطبيب والصيدلي عبد الرحمن بن وافد (كان حيا سنة 460هـ/1067م) والذي عرف عند الأوربيين بابن ويفيت (Eben Guefith) وبأسماء أخرى مشابهة. وكان من أعظم الأطباء والصيادلة الذين أثروا حقل الطب بدراساتهم العلمية القيمة. فكتابه الشهير عن الأدوية المفردة لقي إقبالا عظيما من أهل عصره ومن بعدهم من مسلمين وأوربيين في القرن السادس والسابع الهجريين/الثاني عشر الميلادي، وترجم إلى اللاتينية والعبرية والقطلانية وأفادوا منه في علم الصيدلة وتركيب الأدوية وصناعة العقاقير([94]).
ثانيا: طريق جزيرة صقلية
         وهي الطريق الثاني لانتقال العلوم الإسلامية إلى أوربا حيث كانت تلك الجزيرة تنعم بالرقي والتقدم العلمي في ظل الحضارة الإسلامية، وكانت مركزا من مراكز الثقافة الإسلامية.
         وكانت قبلها صقلية تعيش حالة من التأخر والجهل إلى أن افتتحها المسلمون سنة 212هـ/877م على يد الأغالبة بقيادة القائد المسلم أسد بن الفرات، فوفدوا إليها بعقلياتهم وثقافاتهم ومذاهبهم وحملوا معهم إليها طائفة من الكتب العربية أو المنقولة إلى العربية متنوعة في ثقافاتها. ومن هنا بدأ التلاقح الفكري. فما هي إلا فترة قصيرة استراحت فيها بعض الراحة من الحروب والفتن حتى أنتجت إنتاجا متنوعا في الفقه والحديث واللغة والفلسفة والطبيعة والطب والهندسة والنجوم، وكان ذلك في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس للهجرة.
         وقد استمر الحكم الإسلامي في صقلية إلى سنة 848هـ عندما سقطت في أيدي النورمان الذين ساروا على نهج المسلمين في التسامح وتنشيط الحركة العقلية في الجزيرة، فأبقوا المسلمين على عاداتهم ودينهم ولسانهم، واستعملوا فريقا كبيرا منهم في حروبهم وحاشيتهم. فكان منهم القواد والعظماء والعلماء في الدولة الجديدة؛ وظلت اللغة العربية لغة رسمية في الجزيرة طوال حكم النورمان، بل لقد تعلم هؤلاء العربية؛ ومنهم من برز فيها ونظم الأشعار. وتخلق النورمان بأخلاق رعاياهم وعاملوهم معاملة نادرة في التسامح الديني والسياسي، حتى اتهم الباباوات أمراء النورمان بالإسلام، وما زالوا حتى قضوا عليهم بهذه التهمة الكاذبة التي لا أساس لها من الصحة([95]).
         وكان للموقع الجغرافي الفريد الذي تتمتع به جزيرة صقلية عظيم الأثر في قيامها في مهمة نقل التراث الإسلامي إلى أوربا، حيث كانت صقلية وعلى الأخص عاصمتها "بالرمو" أكثر مدنها ازدهارا وتألقا ونقلا للعلوم الإسلامية وخاصة إلى جنوب أوربا (إيطاليا وفرنسا).
         وفي بالرم (Palerme) التي اتخذها المسلمون عاصمة لهم في صقلية أنشأوا مدرسة للطب لم يعد مثلها في العالم اللاتيني آنذاك. وعلى غرار هذه المدرسة، أنشئت مدارس للطب في بلاد إيطاليا([96]).
         في القرن الثاني عشر الميلادي أسس روجر في جزيرة صقلية أول كلية طب في أوربا قامت بتدريس طلاب الطب ومنحهم شهادات بعد التخرج تؤهلهم لممارسة مهنة الطب.
         وقد تركز أثر صقلية على أوربا في الترجمة والنقل من اللغة العربية إلى اللغات الأوربية باختلافها حيث تصدت طائفة من المترجمين في صقلية لنقل التراث الإسلامي إلى أوربا في مقدمة هؤلاء قسطنطين الإفريقي الذي كان رائدا من رواد نقل التراث في القرن الحادي عشر، وقسطنطين الإفريقي (1020-1087م) عربي الأصل ولد في قرطاجة بتونس وساح في البلاد العربية حيث أتقن اللغة العربية بجانب معرفته اللغة اللاتينية واليونانية. وانتقل إلى إيطاليا حيث اتصل بجيزوفلو، أمير مدينة سالرنو، وبأخيه الطيب. ثم أمضى معظم حياته في دير مونت كاسينو حيث قام بترجمة الكتب العربية وبالتأليف. عمل بعض الوقت في مدرسة سالرنو الطبية، فأثر فيها تأثيرا بالغا بترجمته عددا من الكتب الطبية اللاتينية، وإدخاله التعليم الطبي العربي فيها كما أنه كان يكتب أيضا في القانون الصحي الذي كان يحرره عدد من أساتذة مدرسة سالرنو. ويذهب البعض إلى أنه كان قد أسلم ولكنه كتم دينه خوفا من الاضطهاد الذي كان سائدا ضد الإسلام والمدنية العربية خلال الحروب الصليبية. وظهرت أول طبعة من كتبه في بازل سنة 1537م في سبعة أجزاء. كما ترجم قسطنطين الإفريقي عددا من الكتب الطبية العربية التي كان قد أتى بها من الشمال الإفريقي والشرق العربي إلى الحكام النورمان الجدد في سالرنو. فتفرغ لترجمة هذه الكتب في دير بإيطاليا، ومنها "كتاب كامل الصناعة" لعلي بن العباس المجوسي طبيب عضد الدولة البويهي (كان حيا قبل سنة 384هـ/994م)([97]). وقد عرف هذا الكتاب في أوربا باسم "الكتاب الملكي". وقد قام قسطنطين بتدريس هذا الكتاب في ترجمته اللاتينية بالجامعة الطبية في سالرنو التي تخرج منها([98]). كما ترجم كتاب "زاد المسافر" لابن الجزار القيرواني (ت395هـ/1004م) وعرف الكتاب باللاتينية "Liber Regius"([99]).
         وترجم أيضا كتب إسحاق بن سليمان الإسرائيلي في البول والحميات وكتب الرازي وكتاب "طب العيون" لحنين بن إسحاق وغيرها، وقيل إنه ترجم ما يقرب من سبعين كتابا طبيا من العربية، نسب بعضها إلى أطباء يونانيين. كما أصبحت بعد ذلك من الكتب التي كانت تدرس في جامعة مونبليه المشهورة بدراساتها الطبية بالإضافة إلى كتب طبية عربية أخرى مهمة ترجمت في القرن التالي([100]). وكان قسطنطين أول وسيط لنقل العلوم الإسلامية إلى أوربا عن هذا الطريق، وظل تأثير قسطنين يتزايد -بفعل تلامذته- وبتأثير مدرسة سالرنو بوجه أخص -لأن تأثيرها سرعان ما امتد إلى أنحاء أوربا كلها([101]).
         كما نبغ عدد من المترجمين في صقلية، منهم فرج بن سليم اليهودي المعروف عند الغرب باسم فراجوت أو فراريوس الذي ترجم كتاب "الحاوي" للرازي ترجمة رائعة انتهى منها سنة 1289م([102]) وترجم أيضا "تقويم الأبدان" لابن جزلة البغدادي. كما ترجم كتاب "الطب التجريبي" لجالينوس.
         وعن هذه الجهود جميعا نشأت مدرسة سالرنو في جنوب إيطاليا التي ركزت على دراسة الطب، وكانت مركز إشعاع لعلم الطب في جنوب إيطاليا حيث ازدهر الطب العربي على يد أساتذة من العرب وغيرهم في أواخر القرن الحادي عشر. وبفضل عدد من المترجمين الأكفاء أمست هذه المدرسة معينا لا ينضب للثقافة والعلوم العربية ودعامة صلبة للنهضة العلمية الأوربية وبرزت مدرستها الطبية سنة 985م.
وألفت كتب طبية في سالرنو أظهرت أن أطباءها لم يمتصوا المعلومات الحديثة العربية فقط، بل تمكنوا من توسيعها. وأهم مؤلفات مدرسة سالرنو هو "الموجز السالرني" و"النظام الصحي السالرني" (Regimen Satiates Salenitonum) الذي يبدو أنه ألف حوالي سنة 1100م، وهو قصيدة من 352 بيتا في الأصل. وأشهر شرح لها هو شرح أرنولد فلانوفا (Arnold of Villanova) (1235-1312م)، وهو طبيب وأديب من كاتلونيا أتقن العربية وترجم منها وألف باللاتينية. واشتهر من طلاب سالرنو مايكل سكوت [Michael Scot] (1175-1236م) الذي تضمنت إحدى وصفاته التخدير بالاستنشاق([103]).
         من شواهد التأثير الفاعل للثقافة العربية في إيطاليا في تلك الحقبة إنشاء مدرسة لتعليم اللغة العربية في جنوا وإدخال كثير من الألفاظ والاصطلاحات العربية إلى اللغة الإيطالية. وكان تسامح الحكام المسلمين في صقلية كعادتهم في كل مكان حلوا فيع، عاملا مباشرا في ازدهار الثقافة والفنون والعلوم فيها، حيث شملت لغات العالم العلمية الثلاث في ذلك الزمان وهي اللاتينية واليونانية والعربية. وتم نقل المؤلفات من لغة إلى أخرى، وبذلك أصبحت صقلية خير نموذج لامتزاج الثقافات وصاحبة مدنية لاتينية يونانية عربية فريدة.
         وهكذا كانت صقلية تحت الحكم الإسلامي مسرحا لنقل الحضارة الإسلامية بعامة، وعلم الطب على الأخص إلى أوربا.
ثالثا: طريق الحروب الصليبية في الشرق
         بالقدر الذي بلغ فيه علم الطب عند المسلمين درجة عالية من التطور والرقي، وخاصة في بلاد الشام ومصر زمن الحروب الصليبية، كان الصليبيون وقتها في مستوى متدن للغاية حتى أن الطب كان عبارة عن خرافات وشعوذة. وما رواه أسامة بن منقذ يظهر لنا مدى التدني الذي كان عليه طب الصليبيين. فمن المعروف أن أسامة كان شاهد عيان اختلط بالصليبيين، ولذلك يعد حديثه عنهم حجة لها أهميتها. فقد روى أن جيلوم بوبور أخبره أثناء رحلة من عكا إلى طبرية برفقة معين الدين أنر عن فارس في أوربا مرض مرضا شديدا، فجيء إليه بقس كبير فوضع عليه يديه، وكان الحاضرون يتوقعون شفاءه فور قدوم القس. غير أن القس طلب شمعا ولينه، وعمله مثل عقد الإصبع ووضع كل واحدة في جانب أنفه فمات. وما كان من القس إلا أن التفت إليهم وقال سددت أنفه حتى يموت فيستريح([104]).
         ومثل هذا الموقف الذي يحدث من جانب الصليبيين جعلهم يقدرون الطب عند أهل الشام ومصر، ويفضلون أطباء المسلمين على أطبائهم، على الرغم من معارضة رجال الكنيسة وعلى رأسهم برنار دي كليرفو الذي كان أحد معاصري أسامة بن منقذ وكان يؤمن بالمعجزات الشفائية، لذلك حرم على رهبانه الذين يداهمه المرض أن يتناولوا أي نوه من أنواع الأدوية، أو أن يتصلوا بالأطباء؛ لأنه يجدر بهم حسب رأيه أن يموتوا دون أن تعبث بهم العقاقير.
         ولم تكن هذه المعتقدات نابعة من برنار وأمثاله، بل كانت متأصلة في الزعي الديني عند النصارى آنذاك، الذين يعتبرون المرض نوعا من الجزاء والعقاب الإلهي لا يصح للإنسان أن يتسبب في علاجه والبرء منه([105]).
         وعلى الرغم من هذا الاعتقاد، فقد كان تقدير الصليبيين لأطباء مصر والشام كبيرا. وخير مثل على هذا ما حدث عندما أصيب بودوان بن عموري ملك بيت المقدس بالجذام. فقد استقدم عموري طبيبا من الديار المصرية هو داود بن أبي المنى لمعالجة ابنه. وكان الأمراء الصليبيون يلجأون إلى أطباء المسلمين عندما يصاب أحد منهم بمرض، مما جعل وليم الصوري يقول بشيء من الأسى: "إن أمراءنا الشرقيين، تحت تأثير نسائهم، يزرون بالأدوية وبالوسائل الطبية اللاتينية ولا يؤمنون إلا بالأطباء اليهود والسامريين والسوريين والعرب"([106]).
         وكان بعض الطلاب الأوربيين المحبين للمعرفة يفدون إلى الشام لدراسة الطب في مدرسة طرابلس. وكانوا يبدأون دراستهم بعد تعلمهم وإتقانهم اللغة العربية([107]). وكان هؤلاء الطلاب يمارسون الطب بعد عودتهم بالمستوى الرفيع الذي وصلوا إليه. وقد طلب بعضهم من البابا إنوسنت الثالث أن يعمل على إقامة عدد من المشافي، فبادر في سنة 1204م بإنشاء مستشفى في روما سماه مستشفى الروح القدس. وأعقب هذا إنشاء عدد من المستشفيات على غراره في مختلف أنحاء أوربا. وقد وصل عدد هذه المستشفيات في القرن الثالث عشر الميلادي في ألمانيا وحدها إلى أكثر من مائة مستشفى. وفي فرنسا كثرت المستشفيات التي تعنى برعاية العجزة والفقراء. وفي عام 1260م أنشأ لويس التاسع في باريس ملجأ الثلاثمائة، وكان في بداية الأمر مأوى للمكفوفين، ثم أصبح مستشفى للرمد، والآن يعتبر من أهم المراكز الطبية في باريس. ومن المعروف أن الملك لويس كان قد قاد حملة إلى الشرق في عام 1249م. ولا شك أنه رأى في الشرق نماذج من المستشفيات، فعمد إلى إقامة مثيل لها في بلاده. أما في إنجلترا، فقد أنشئ مستشفى القديس بورثولميو في لندن في سنة 1123م، ويعتبر أقدم مستشفى في هذه البلاد. وفي عام 1215م أسس مستشفى القديس توماس في لندن([108]).
         وإضافة إلى الطلاب الذين كانوا يفدون إلى الشرق للدراسة، كان هناك أطباء يرافقون الحملات الحربية ويجدون في هذا فرصة للتزود من معارف الشرق، ولا سيما في مجال الطب من الناحيتين العلمية والعملية. وكان من هؤلاء جراح إيطالي يدعى هوج البولوني قدم إلى الشرق في عام 1218م ومكث ثلاث سنوات اطلع خلالها على طرق العلاج، واتصل بالأطباء ليكتسب الخبرة. وكم كانت دهشته عظيمة عندما رأى المستشفى العسكري المتنقل الذي يحمله أكثر من ثلاثين جملا. وأثناء حصار دمياط تعرف هوج على الطريقة التي يضمد بها المصابون؛ فقد تعلم كيف تلف الجروح بخرق نظيفة ساخنة مبلولة بالخمر ثم تترك مدة أسبوع حتى تندمل([109]).
         وقد أبدى هوج إعجابه بصفة خاصة بطريقة التخدير التي كان يتبعها الأطباء المسلمون قبل إجراء العمليات. وكان الأطباء المصريون يستعملون نبات الخشخاش والشوكران لتخدير المرضى. ورأى عملية تجبير الكسور التي تتم بطرق علمية لا تستخدم فيها آلات التعليب التي كانت متبعة في أوربا. وعندما عاد هوج إلى أوربا في عام 1221م، اهتم بنشر هذه الطرق والأساليب. وقد ترك بعد وفاته مدرسة للجراحة في بولونيا، تولاها ابنه ثيودريك، الذي كان أبوه قد أوصاه بالاهتمام بتضميد الجروح على نحو ما تعلمه من العرب، واتباع طريقتهم في التخدير. وقد أثبت ثيودريك أنه خير خلف لأبيه؛ فلقد زاول مهنة الطب وألف كتابا في الجراحة ضمنه تعاليم أبيه الطبية، وبخاصة في هذا الحقل([110]).
         وكانت الكنيسة قد حرمت ممارسة الجراحة بموجب مرسوم صدر في سنة 1163م. ولكن بعد أن أخذت الكتب الطبية المترجمة عن العربية تنتشر في أوربا وتأسست عدة مراكز طبية على غرار مراكز الشرق، بدأ الاهتمام بالجراحة. وقد جاء في سجلات شارك دانجو، ملك صقلية، ذكر الكثير من المؤلفات اللاتينية المترجمة عن اللغة العربية. وقد رافق سَارْك أخاه لويس التاسع ملك فرنسا في حملته على مصر، وتسنى له الاتصال بالعلماء العرب، وقد عرف عنه أنه أسس مدرسة للترجمة([111]).
         هذا، وقد تمت في الشرق ترجمة بعض الكتب العربية إلى اللاتينية. ومن أشهر هذه الترجمات ترجمة الكتاب الملكي "كامل الصناعة الطبية" الذي ألفه علي بن عباس المجوسي. وهذه الترجمة قام بها ستيفن الأنطاكي ستيفانو دبيزا أثناء وجوده في أنطاكية في سنة 1127م وسماه "الكتاب الملكي"، وهو العنوان الذي عرف به الكتاب في أوربا وقد ترجم هذا الكتاب تحت اسم "Liber Pantegni". الواقع أن هذه الترجمة إعادة للترجمة التي قام بها قسطنطين الإفريقي في دير مونتي كاسينو في إيطاليا في القرن الحادي عشر الميلادي، وقد قوى الأثر العربي في هذه جامعة سالرنو بإيطاليا بالمعلومات الطبية التي كان الصليبيون العائدون من الشرق يحملونها معهم، فكانت إلى جانب الكتب العربية رافدا من روافد التعليم الطبي في هذه الجامعة. وظلت المقالتان الأولى والثالثة مرجعا لطلاب هذه الجامعة في علم التشريح مدة قرن من الزمان([112]).
         وممن برز في نقل الطب إلى أوربا عبر هذا الطريق أدلار بات الذي اشتهر بنشاطه العلمي بين 1115 و1142م، حيث عاش في الشرق لسنوات عديدة وألف كتبا عديدة فيها الكثير من الآراء العلمية العربية؛ كما قام بترجمة عدد آخر من الكتب العربية إلى اللاتينية. وساهم المرضى والأطباء من المحاربين العائدين أيضا في نقل كثير من الوصفات الطبية العربية إلى الغرب، وكان المحيط الرئيس لهم لدى العودة مدينة سالرنو حيث أفاد في دفع الحركة الطبية في مدرستها. وعلى الرغم من كون تأثير الحروب الصليبية على الثقافة والطب لم يكن بحجم المعابر، فإن ذلك التأثير ظهر جليا في أوربا بعد القرن الثاني عشر بظهور المستشفيات والملاجئ التي أخذوها عن المشرق الإسلامي([113]). إذ أنه يمكن أن نجزم بأن من أبرز الآثر الملموسة للطب الإسلامي في أوربا عن هذا الطريق هو تلك المستشفيات التي أخذت تنتشر في العواصم الأوربية بداية من القرن الثالث عشر الميلادي حيث كان الشرق الإسلامي ميدانا لمشاهدة الأوربيين لتلك البيمارستانات المنتشرة عند المسلمين والتي بلغت حدا من الرقي والتقدم كالبيمارستان النوري والمنصوري بالقاهرة.
         ومن المعابر الثانوية:
         1- الرحلات:
         كان من بين المعابر الثانوية للحضارة الإسلامية بعامة، وعلم الطب بخاصة، إلى أوربا تلك الرحلات التي قام بها الأوربيون إلى عدد من مناطق العالم الإسلامي وبلاده. وكان الغرض الأساسي من هذه الرحلات هو التجارة والسياحة وتلقي العلوم. فعلى سبيل المثال ماركو بولو صاحب الرحلة السياحية المشهورة، وليوناردو دافنشي الذي ولد في بيزا عام 1180م؛ وخلال عمله في التجارة في بجاية في الجزائر تعلم الحساب وزار طوروس وسبتة وتونس، وتردد على مكتبات الإسكندرية ودمشق، وناقش كبار العلماء في القاهرة، ودرس كل ما حوته مخطوطات كبار الرياضيين من الإغريق والهنود والعرب، فنبغ في ذلك؛ وبعد أن عاد إلى إيطاليا تنبه إليه القيصر فردريك الثاني وضمه إلى خلصائه من العلماء. فهناك ألف الكتب وعلم الغربيين الأرقام العربية والصفر العربي([114]).
         وقد أدرك كثير من الأوربيين أهمية الطب عند المسلمين ومدى ما وصلوا إليه من تطور في هذا المجال، فشرعوا في الرحلة إلى عدد من بلدان العالم الإسلامي والإقامة بها سنوات طويلة تعلموا خلالها اللغة العربية ودرسوا ما احتاجوا إليه من علوم ومنها علم الطب. وكان ممن رحل لهذا الغرض الطبيب الأنطاكي أندرياس ألباكوس (Andreas Alpaqus) (1450-1523م) الذي قضى أكثر من ثلاثين سنة في سوريا حيث ذهب خصيصا لدراسة اللغة العربية وللاطلاع على النصوص والمخطوطات العربية في أصولها، ثم عاد إلى بادوا وعين أستاذا للطب في جامعتها، فترجم عددا من الكتب العربية إلى اللاتينية مع شروح على بعضها. وقد نشر قسم منها بعد وفاته، منها ترجمة شرح ابن النفيس للقسم الخامس من "قانون" ابن سينا طبع سنة 1527م، ونقح ترجمة جرارد الكريموني لـ"قانون" ابن سينا طبع سنة 1527م، وأعيد طبعه بعد ذلك مرات متعددة وبلغت طبعات "القانون" 36 طبعة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وطبعت ترجمته لكتاب "الأدوية" لابن البيطار سنة 1602م. "ولكن من المؤكد أنه لم تطبع كل الكتب التي ترجمها ألباكوس لغرض النشر"([115]).
         وقد أصبحت نسخته من "شرح التشريح" لابن النفيس في مكتبة أسرة ناني (Nani) في البندقية. وقد اطلعت على فهرس المكتبة الذي أعده أستاذ اللغات الشرقية في جامعة بادوا سيموني أسماني (Simon Assemani)، ونشر سنة 1792م في بادوا. فإذا هو يحتوي على وصف النسخة التي كتبت سنة 734هـ/1333م، أي خمس وخمسين سنة بعد وفاة المؤلف ابن النفيس. وتقع في 306 صفحات. إن لوجود هذه النسخة أهمية كبرى في تاريخ اكتشاف الدورة الدموية([116]).
         2- البعثات العلمية:
         كما أن من ضمن المعابر الثانوية للحضارة الإسلامية بعامة وعلم الطب بخاصة إلى أوربا، تلك البعثات العلمية التي يقوم بإرسالها بين الحين والآخر ملوك أوربا إلى الديار الإسلامية لدراسة علوم المسلمين ونقلها إلى اللغات الأوربية، ومنها علم الطب.
         ومن البعثات العلمية المبكرة التي أرسلت إلى العالم الإسلامي من أوربا تلك البعثات المتواصلة التي كانت تفد إلى الأندلس من الأقطار الأوربية كإيطاليا وفرنسا وألمانيا وإنجلترا حتى بلغت سنة 312هـ في عهد الخليفة الناصر زهاء سبعمائة طالب وطالبة. وكان من بين تلك البعثات بعثة علمية فرنسية برئاسة الأمير إليزابث ابنة خال الملك لويس السادس ملك فرنسا آنذاك([117]).
         كما أن فيليب ملك بافاريا بعث إلى الخليفة الأموي هاشم الثالث (حوالي سنة 403هـ) برسالة يستأذنه فيها أن يرسل بعثة من الطلاب والطالبات للاطلاع على النهضة العلمية التي تعيشها الأندلس للاستفادة منها والاقتباس عن حضارة الأندلس الراقية. وكان على رأس هذه البعثة وزير الملك المدعو ويلمبين الذي سماه العرب "وليم الأمين"، وكانت هذه البعثة تتألف من 215 طالبا وطالبة تم توزيعهم على حواضر العلم في الأندلس. وتذكر الروايات التاريخية أن ثمانية من أفراد هذه البعثة اعتنقوا الإسلام ومكثوا في الأندلس، ومن هؤلاء الثمانية ثلاث فتيات تزوجن بعدد من مشاهير رجال الأندلس([118]).
         ويذكر التاريخ أن ملك إنجلترا جورج الثاني أرسل بعثة من بنات النبلاء والأشراف، وفي مقدمتهن الأميرة دوبانت ابنة أخيه، إلى الأندلس ووجه معهن خطابا إلى الخليفة الأموي يقول فيه: "أردنا لزبنائنا اقتباس حضارتكم لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر نور العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل"([119]). كما يشير فؤاد سزكين إلى طريق آخر لنقل العلوم الإسلامية ومنها الطب إلى أوربا. ذلك هو الطريق الشفوي. إذ عمد عدد من الأوربيين منذ القرن الثاني عشر الميلادي، وبخاصة الذين لا يفهمون العربية، إلى الترجمة الشفوية لإنتاج العلماء المسلمين حيث كانوا يستفيدون من مؤلفات المسلمين دون أن تكون قد ترجمت إلى اللغات الأوربية أو أنها كتب ترجمت ثم خفيت ترجماتها على الناس([120]).
         هذا وقد تعددت مجالات التأثير في الطب الإسلامي على أوربا وشملت مختلف فروع الطب وجوانبه. إلا أنه يمكن الإشارة إلى عدد من الجوانب التي يمكن تلمس ذلك الأثر عن طريقها بصفة واضحة، ومنها:
         - الصيدلة:
         نشأت الصيدلة منذ زمن قديم وارتبطت ارتباطا وثيقا بعلم الطب، إذ كان الطبيب هو الذي يعد الدواء ويركبه للمرضى. ومع مرور الزمن وتشعب العقاقير وطرق تركيبها، ظهر التخصص في هذا العلم مع اتصاله الملح مع الطب. فالأسس والاحتياجات والمقادير يصنعها الطبيب، والصيدلي هو الذي يعمل على جمعها وتركيبها واختيار الأجود من أنواعها.
         وقد برع المسلمون في تحضير وضع الضمادات والمساحيق والمراهم وتركيباتها، واكتشفوا أدوية جديدة منها: الكافور والصندل واللاوند والمسك والتمر هندي والحنظل، كما اخترعوا الكحول والمستحلبات والخلاصات العطرية، وهم أول من ابتكر الشراب الحلو المستخرج من نبات الكرنب مع السكر. وما زال الغرب يطلقون عليه كلمة (Syrop) وهي مأخوذة من كلمة "شراب" التي تردد في المصادر العربية.
         ولذا، فإن من المسلم به لدى المختصين في تاريخ العلوم أن المسلمين هم أول من جعل الصيدلة علما مستقلا، وعملوا على تقدمه تقدما ملحوظا. وبذا تقول زيغريد هونكه حول مكانة الصيدلاني عند المسلمين:
لقد نقل العرب حقل محضر الدواء عن حقل واصفه وأوجدوا مهنة الصيدلاني الذي ارتفع إلى مركز عال بفضل علومه ومسؤولياته الخاصة. وكانوا أول من افتتح الصيدليات العامة، وذلك في العام الثمانين من القرن الثامن في ظل حكم الخليفة المنصور؛ كما أنهم ألحقوا بكل بيمارستان صيدلية خاصة به([121]).
         ونما تبعا لذلك علم العقاقير أو الأقراباذين (Materia Medica) عند المسلمين نموا كبيرا حيث أكثروا من التأليف في الأدوية المفردة من الأعشاب وغيرها، وفي الأدوية المركبة في صور مختلفة. وتضرب زيغريد هونكه مثالا من عمل ابن سينا في كتابه المشهور "القانون في الطب" الذي ذكر فيه ما ينوف على سبعمائة عقار أدخلت كلها في علم النبات وعلم الصيدلة للأوربيين. وظل الكثير منها بأسمائها العربية في اللغات العربية في اللغات الأجنبية كالعنبر والزعفران والكافور والمسك وعود الند والصندل والتمر هندي وغيرها([122]).
         واشتهر عدد من صيادلة العرب شهرة واسعة ونالت أعمالهم استحسانا كبيرا في أوربا. ومن هؤلاء ماسويه المارديني (المتوفى سنة 406هـ/1015م) الذي عاش في بغداد والقاهرة، وعرف في أوربا بماسويه الصغير أيضا، وله مؤلف ضخم في العقاقير في اثني عشر جزءا ترجم إلى اللاتينية وشاع واشتهر اشتهارا واسعا في أوربا اللاتينية، واستمر مدة قرون عديدة الكتاب المدرسي الأول في الصيدلة في أوربا([123]).
         وكان ممن برز في علم الصيدلة عند المسلمين الطبيب عبد الرحمن بن محمد بن عبد الكريم الملقب بابن وافد الطليطلي المتوفي سنة (467هـ/1074م). وكانت اهتماماته في الأدوية المفردة، وألف فيها كتابا ضاع أصله العربي، بينما هو موجود في ترجمته اللاتينية بعنوان Meineralibus Simplicibus. ويقدر تأثيره بأن طبع منه حوالي خمسين طبعة ملحقا بمؤلف ماسويه الصغير المذكور آنفا وانتشرت في مختلف أنحاء أوربا([124]).
         ومن أشهر وأوسع الكتب في الموضوع كتاب "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" لابن البيطار (ت698هـ/1298م). وقد ترجمت أجزاء من هذا الكتاب إلى اللاتينية وطبعت منذ 1598م في البندقية، ثم في باريس 1606م. والترجمة الكاملة ظهرت في ألمانيا، وطبعت في شتوتجارت في سنة 1842م([125]).
         وكان تأثير علم الصيدلة عند المسلمين كبيرا جدا في أوربا. ويظهر ذلك من ترجمة المصادر العربية من الصيدلة إلى اللاتينية منذ عهد مبكر وطبعها وتداولها أو الاستفادة منها حتى أوائل القرن التاسع عشر. كما يظهر هذا الأثر من خلال اطلاع الأوربيين على أسماء وأوصاف عقاقير أسيوية وإفريقية لم يعرفها اليونانيون من قبل([126]).
         وقد امتد أثر علماء المسلمين على غيرهم من الأمم في علم الصيدلة أن أخذ العلماء في كل من أوربا وأمريكا، قبيل عهد قريب وبالتحديد سنة 1964م، بإعادة قراءة كتاب ابن داود "تذكرة أولي الألباب" في محاولة للكشف عن أدوية جديدة للأمراض([127]).
         - الجراحة:
         أما عن الجراحة وفنونها، فقد تقدمت عند المسلمين تقدما كبيرا وقدموا فيها أروع الإنجازات واشتهر منهم عدد من أعلام الجراحة في التاريخ كان من أبرزهم رائد الجراحة في قرطبة أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي المتوفى سنة 427هـ/1035م الذي ألف كتاب "التصريف لمن عجز عن التأليف"، وجعل للجراحة بابا خاصا مهما من هذا الكتاب. وكان هذا الباب شرطا في ممارسة الجراحة. وقد نشر باللغة اللاتينية باسم Chirurgia. وقال عنه الدميلي إنه أعظم الجراحين العرب على وجه الخصوص([128]).
         ويمتاز كتاب "التصريف" بكثرة الرسوم التوضيحية للآلات الجراحية التي كان يستخدمها في عمله. ولقد استمر هذا الكتاب مدة خمسة قرون عمدة في الأمور الجراحية في أوربا وترجم مرات عديدة إلى اللغة العبرية واللاتينية.
         وقد استمر تطور علم الجراحة عند المسلمين في القرون اللاحقة، مما حدا بالمؤرخ الإنجليزي كامبل إلى أن يصف الجراحة في الأندلس بقوله:
فكانت الجراحة في إسبانيا المسلمة في القرن الثالث عشر تتمتع بسمعة أعظم من سمعتها في باريس ولندن وأدنبره. ذلك أن ممارسي مهنة الطب في سرقسطة كانوا يمنحون لقب طبيب جراح، بينما كان لقبهم في أوربا حلاق حراج. وظل هذا التقليد ساريا في إسبانيا حتى القرن السادس عشر([129]).
         وقد أخذ الأوربيون معارفهم في الجراحة من علماء المسلمين. فكان باب الجراحة من كتاب "التصريف" للزهراوي مرجعا لكل من مارس الجراحة في أوربا آنذاك.
         وكان من أبرز العلماء المسلمين الذين كثرت تآليفهم في علم الطب وازداد أثرهم وذاع صيتهم في الغرب:
- الرازي (240-320هـ/854-932م)
         هو أبو بكر محمد بن زكريا الرازي من أشهر الأطباء الكبار وأنبغهم وأكثرهم تأليفا وابتكارا، طبقت شهرته الآفاق عبر العصور، وقد عرف في أوربا منذ العصور الوسطى بـ Rhazes، وانتشرت مؤلفاته بها مترجمة إلى اللاتينية.
         ولد الرازي بالري في سنة 240هـ/854م، وتوفي في حدود سنة 320هـ/932م بعد عمر مديد أصيب بالعمى في آخره. وعلى ذلك، فإنه عاش في النصف الثاني من القرن الثاني والربع الأول من القرن الثالث للهجرة، أي أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر للميلادي.
         والرازي غزير الإنتاج. كتب في موضوعات شتى من الفلسفة والكيمياء والطب وغيرها، وبلغ عددها 13 كتابا و24 رسالة أو بحثا، ونصفها في الطب. وأشهر وأوسع مؤلفاته في الطب كتاب "الحاوي". وهو موسوعة طبية حافلة، حوى جميع المعارف الطبية لدى اليونان والعرب والهند، كما ضمنه المؤلف تجاربه الشخصية من المداواة وهي مهمة، وآراءه المبتكرة في هذا المجال. وكان تأثيره كبيرا في تقدم الطب في الشرق والغرب فأصبح من الكتب المدرسية الذي كان يرجع إليه الأطباء دائما. وقد طبع منه 23 جزءا حتى الآن.
         أما تأثيره في أوربا، فيذكر أنه ترجم إلى اللاتينية لأول مرة في سنة 1279م برعاية الملك شارل أنجو ملك صقلية. ترجمه الطبيب اليهودي فرج بن سالم، وعرف في اللاتينية باسم Continens، وانتشر في نسخ خطية كثيرة. ثم عندما اخترعت الطباعة، طبع لأول مرة في سنة 1468م، ثم أعيد طبعه مرارا وأصبح من الكتب المعتمدة في دراسة الطب في جامعات أوربا حتى القرن الثامن عشر الميلادي. وهو من الكتب التسعة التي كانت تتكون منها مكتبة الكلية الطبية في باريس سنة 1395م. وتكررت طباعته في أوربا بترجمته اللاتينية، وبقي القسم الخاص بالصيدلة المرجع المهم في التداوي زمنا طويلا([130]).
         وكانت رسالة أبي بكر الرازي المشهورة في الجدري والحصبة أول بحث علمي متقن في الأمراض المعدية. ويمكن تقدير شهرتها وتأثيرها بأنها طبعت أربعين طبعة باللغة الإنجليزية بين سنتي 1498 و1866م. وكانت هذه الترجمة الإنجليزية من ترجمة الكتاب باللاتينية التي تمت في عصر مبكر في القرن الحادي عشر الميلادي([131]).
         وقد اعترف به الغربيون عموما؛ كما أن علماء أمريكا وجامعاتها وضعوا له اعتبارا خاصا في جامعة برنستون الأمريكية بتخصيص ناحية فخمة من بنائها لمآثر الرازي، وأنشأوا دارا لتدريس العلوم العربية والبحث عن المخطوطات الطبية وإخراجها([132]).
         ومن كتبه المشهورة المهمة ذات التأثير العظيم في معارف أوربا الطبية كتاب "المنصوري" الذي ألفه للأمير منصور بن إسحاق أمير سجستان وهو في عشرة أجزاء، وقد نقل هذا الكتاب إلى اللاتينية أيضا في القرن الثاني عشر الميلادي وعرف باسم Liber Almansoris. وطبع لأول مرة في ميلانو بين 480 و1489م. وظلت تدرس في جامعات أوربا بجانب كتب الرازي الأخرى حتى القرن السابع عشر للميلاد.
         وكان من تقدير أوربا وأمريكا لهذا العالم الطبيب العبقري الفذ أن علقت صورته في القاعة الكبرى بكلية الطب بجامعة باريس كما سميت قاعة من أفخم قاعات جامعة برنستون الأمريكية باسمه.
- علي بن العباس المجوسي (كان حيا قبل سنة 384هـ/994م)
         طبيب عضد الدولة البويهي وأحد تلامذة الطبيب الرازي. اشتهر في ممارسة الطب وتعليمه وألف كتاب "كامل الصناعات الطبية"، وهو أول كتاب عربي كبير يترجم إلى اللاتينية ترجمه قسطنطين الإفريقي وعرف بالكتاب الملكي "Liber Regius"؛ وقيل فيه إنه:
         كتاب جليل وكناش نبيل اشتمل على علم الطب وعمله. وكانت أفضل أقسامه القسم الذي يبحث في علم الأغذية الصحية وعلم العقاقير الطبية. ومن الأمور المبتكرة فيه إشارته إلى وجود الحركة الدموية الشعرية، وبرهانه على أن الطفل في الولادة لا يخرج من نفسه، بل بفعل تقلصات عضلية داخل الرحم إلى غير ذلك من الإضافات الطبية المهمة([133]).
- ابن سينا (370-428هـ/980-1037م)
         أما الطبيب ابن سينا، فهو أشهر الأطباء في تاريخ الطب العربي على الإطلاق، وفاق في الشهرة والتأثير سلفه الرازي، وإن كان أقل منه ابتكارا عند البعض، وكان بجانب نبوغه في الطب فيلسوفا بارعا، بل هو عالم موسوعي درس جميع العلوم الفلسفية القديمة عند اليونان من الطبيعيات والرياضيات والفلك والمنطق والفلسفة حتى عرف بلقب "الشيخ الرئيس". ولا شك أنه أحد كبار عباقرة العلوم في تاريخ الإسلام، بل على المستوى العالمي.
         واسمه الكامل أبو علي الحسين بن عبد الله، واشتهر بابن سينا. وقد ولد في إحدى قرى مدينة بخارى في سنة 370هـ/980م، وتوفي بهمذان في سنة 428هـ/1037م.
         وكان من أعظم وأشهر كتبه في موضوع بحثنا "القانون في الطب"، ويعرف بـ"القانون". وقد اشتهر اشتهارا كبيرا في الشرق والغرب على السواء. والذي دفع أحد العلماء الأمريكيين أن يقول: "إن كتاب "القانون" ظل الحجة والمرجع في الطب مدة أطول من أي مدة بلغها كتاب طبي آخر". وأصبح هذا الكتاب كتابا مدرسيا في المعاهد الطبية في الشرق وكذلك في كليات الطب وجامعات أوربا بعد ترجمته إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي، وظل يدرس فيها حتى نهاية القرن السابع عشر للميلاد([134]).
         ويقدر مدى انتشار هذا الكتاب في العالم الغربي في العصور الوسطى أنه طبع خلال ست وعشرين سنة (1174-1500م). وقد طبع في بولاق بمصر في أواخر القرن التاسع عشر في ثلاثة مجلدات كبار. وهو كتاب ضخم شامل في جميع المعارف الطبية، ويفوق في دقة التنظيم والتنسيق كتاب "الحاوي" للرازي، وفيه ذكر ستين وسبعمائة دواء.
         ومن الجدير بالذكر أن كتابه "القانون في الطب" لا يزال يدرس ويستعان به في كليات الطب العربي والهند والباكستان، كما يمارس هذا الطب الذي يسمى في تلك البلاد بالطب اليوناني على مدى واسع. وهذا العلاج أرخص وأقل ضررا من الطب الأوربي، وله أطباء مشهورين منتشرون في جميع أنحاء شبه القارة الهندية. وتزين صورة ابن سينا القاعة الكبرى بكلية الطب بجامعة باريس بجانب صورة الرازي الطبيب([135]).
- الزهراوي:
         خلف بن عباس الزهراوي المتوفى سنة 427هـ/1035م، وهو أشهر أطباء الأندلس ورائد الجراحة في قرطبة. وقد اشتهر بتأليف كتابه المشهور "التصريف لمن عجز عن التأليف" والذي قال بالنثيا صاحب كتاب تاريخ الفكر الأندلسي:
         إنه أهم وأذيع كتاب في تاريخ الطب كله، وإن الزهراوي قد ارتفع به في أعين الناس إلى طبقة أبقراط وجالينوس، وإنه يحوي رسوم الآلات الجراحية. وهو أول مؤلف جعل الجراحة علما قائما بذاته مستقلا عن الطب وأقامها على أساس من العلم بالتشريح([136]).
         وقد نشر ضمن هذا الكتاب 200 شكل عن آلات الجراحة واستعمالاتها. وقد نقل جزءا من هذا المؤلف المترجم جيراد الكرموني، وصدرت منه طبعات مختلفة: واحدة في البندقية عام 1497م وأخرى في بلسل عام 1541م وثالثة في أكسفورد عام 1778م، وظل في مدرستي سالرنو ومونبلييه وغيرهما من مدارس الطب المتقدمة([137]).
         ويذكر الدميلي أن الزهراوي أشهر أطباء الأندلس في ذلك العصر، بل من أعظم أطباء المسلمين أيضا... وربما كان الزهراوي أعظم الجراحين العرب على وجه الخصوص([138]). ويذكر العالم الشهير هالو أن كتب أبي القاسم الزهراوي كانت المصدر العام الذي استقى منه جميع من ظهر من الجراحين بعد القرن الرابع عشر، وترانا مدينين لأبي القاسم بكثير من الآلات الجراحية التي تظهر صورها في كتبه.
- ابن زهر:
         أبو مروان عبد الملك بن زهر (ت557هـ/1162م)، وهو أحد أعلام الطب البارزين في الأندلس، وبالتحديد في عصر الموحدين، وكان أحد أفراد أسرة ابن زهر التي تفرع منها ستة من الأطباء المرموقين. وقد اشتهر ابن زهر بمؤلفه الطبي كتاب "التيسير في المداواة والتدبير" الذي جعل محور اكتشاف الأمراض هو التجربة، مما أوصله إلى آراء مبتكرة. وقد ترجم هذا الكتاب إلى العبرية، ثم إلى اللاتينية، وصار أحد المصادر المهمة التي كانت تدرس في المراكز الطبية المشهورة في أوربا حتى القرن الثامن عشر الميلادي([139]). وكان ابن زهر قد ألف هذا الكتاب استجابة لطلب صديقه ابن رشد الذي كان من أشد المعجبين به، وقد أثنى عليه كثيرا في "كلياتـ"ـه، واعتبره أعظم طبيب عرفه العالم بعد جالينوس. وأقل ما يقال عنه أنه أعظم طبيب سريري في الإسلام بعد الرازي([140]).
         ومع مرور الزمن، آتت تلك الجهود ثمارها؛ وظهر تأثير الأوربيين في المعرفة الطبية بالطب الإسلامي، وظهر جيل من مشاهير الأساتذة في الطب في عدد من العواصم الأوربية، وأظهر علم وظائف الأعضاء بعض النشاط والانتعاش، وصدرت كتب في علم التشريح بأقلام الأوربيين أنفسهم، وأصبحت أمراض النساء وعوارض الحمل والولادة موضوعا للدراسة العلمية بعدما كانت من اختصاص القوابل والمولدات، وانتقلت أمراض العين من أيدي القداحين الجوالين إلى أيدي الأطباء المدركين لمهنتهم. وأسس في البلاد الأوربية أعدادا من الجامعات والمعاهد التي تعنى بتدريس الطب حيث يتأكد أنه من ضمن آثار انتقال العلوم الطبية عند المسلمين إلى أوربا أن نشأت المدارس الخاصة بتعليم الطب في كل من مونبيلييه ونابولي وبولونيا وبادوا وأورلياتن وأكسفورد وبكريدج وغيرها، وهذه المدارس جميعها كانت تستخدم كتب الطب الإسلامية بلغاتها العربية أو المترجمة إلى اللغة اللاتينية، وكانت الأساس في تقدم المعارف الطبية عند الأوربيين قرونا عديدة. وأصبحت مصادر الطب على اختلافها ميسورة باللغة اللاتينية، وازداد التقدم في ميداني الصحة والجراحة وإدارة المستشفيات أيضا. فاضطلع كي دي شولياك كبير جراحي مونبيلييه (ت1368م) بعمليات الفتق، كما برز لانفراشي الميلاني الذي زاول الطب في فرنسا بطرق محسنة لربط الأوعية الدموية وخياطة الجروح إلى غير ذلك من الآثار الطبية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق