تاريخ الحركة الدستورية بالمغرب
عمر فرتوت
ثمة معضلة سياسية وقانونية عرفها المغرب إبان عهد الحماية، وظهرت بجلاء
بعد الاستقلال، لتمتد إلى البدايات الأولى من ستينات القرن الماضي، يتعلق
الأمر بالدستور، القانون الأسمى للأمة، فإذا كانت العديد من الدول
الإسلامية سجلت تعاملها المبكر مع المسألة الدستورية، وتفاعلت الحركة
الوطنية المغربية مع أفقها الفكري خلال عهد الاستعمار، مثل ( مصر1882 ،
تركيا 1876 ، تونس 1861 ، إيران 1906 )، وعلى الرغم من أن الحركة الدستورية
قد نشطت في المغرب منذ مطلع القرن العشرين، إبان المرحلة العزيزية،
وبالضبط من خلال جماعة " لسان المغرب " المنضوية في إطار مجلة تحمل اسمها،
وكانت تصدر بمدينة طنجة . فإن الحركة الوطنية المغربية بعد الاستقلال لم
تتوجه بمطالبها العاجلة لتتطرق عمليا إلى معالجة المسألة الدستورية، بل
اكتفت بمجرد الانتظار الذي تواصل لسنوات عديدة، بخلاف بقية دول المغرب
الكبير، التي توجهت منذ حصولها على الاستقلال مباشرة إلى انتخاب جمعيات
تأسيسية لوضع اللبنات الأولى لدساتيرها، أما المجلس الوطني الاستشاري
المعين الذي تم تشكيله في المغرب بعد الاستقلال تحت رئاسة المهدي بن بركة،
فإنه سينشغل بالقضايا الاقتصادية ومغربة الإدارة على حساب أولوية تنظيم
الحكم السياسي، فحزب الاستقلال لم يكن يلح على الدستو، قدر إلحاحه على
إعطاء الأولوية لتحديد أجل إجراء الانتخابات البلدية منها والقروية،
والاتحاد الوطني للقوات الشعبية بدوره شارك في الحكومة دون أن يبدي أي شروط
ضرورية في مجال تأسيس الدستور، فالحركة الوطنية على حد تعبير الأستاذ محمد
الطوزي في كتابه: " الملكية والإسلام السياسي في المغرب " نظرا لغياب
برنامج واضح لديها لتنظيم الدولة، "فإنها ستنشغل باقتسام السلطة أكثر من
انشغالها بمساءلة أسسها ".
وبشأن التأخر الزمني، والتماطل في المبادرة إلى طرح المسألة الدستورية،
فإن التصورات والتحاليل تختلف بصدد هذا الموضوع، فالأستاذ عادل عبد اللطيف
يفسر ذلك بغموض المحتوى السياسي لوثيقة 11 يناير 1944 المؤسسة لمطلب
الاستقلال، وتذهب الأستاذة رقية المصدق إلى أن الوثيقة اكتفي فيها
بالمطالبة بإحداث "نظام شورى" فقط " وأن هذا الغياب يرجع إلى كون الوثيقة
كانت نتيجة لقاءات متعددة جمعت بين ملك البلاد وحزب الاستقلال، حيث تم
استبعاد كلمة دستور لكونها جد ثورية، وبالتالي فإنه يصعب قبولها من طرف بعض
شخصيات المخزن "، وذهب المفكر المغربي والأكاديمي عبد الله العروي في كتاب
" الإيديولوجية العربية المعاصرة " إلى أن الليبراليين المغاربة بمختلف
مشاربهم وانتماءاتهم السياسية على الرغم من كونهم كانوا أشد تحمسا ودفاعا
عن فكرة المسألة الدستورية، فإن موقفهم هذا ظهر ضعيفا وشاحبا أمام أقطاب
المد السلفي ومشروعهم الفكري بالمغرب. وفي هذا السياق نستحضر دراسة قانونية للأستاذ محمد المدني تشير إلى أن حزب
الاستقلال كان يعارض إنشاء دستور مغربي قبل الاستقلال، على أساس أن هذه
المحاولة الدستورية المبكرة في نظره ترمي إلى تجريد السلطان من سلطته
التشريعية... الشيء الذي يشكل خطرا كبيرا على البلاد ... وأن المطالبة
بالدستور يضع نهاية لفكرة تحقيق الاستقلال وإجلاء الاستعمار، فالدستور إذن
بالنسبة للحزب يرتبط باستقلال المغرب، فهو يأتي بعد الاستقلال وليس قبله.
وقد
بدأت الحركة الدستورية والإصلاحية في المغرب سنة 1900، بعد الانكسارات
التي عرفها المغرب في علاقاته الدولية إثر هزيمتي إيسلي وتطوان أواخر القرن
التاسع عشر، فبدأت النخبة المغربية السياسية والفكرية تبدي اهتماما ملحوظا
بموضوع الإصلاحات، وفي سنة 1900 تقدم عبد الله بنسعيد من شمال المغرب
بمشروع دستوري رفعه إلى السلطان مولاي عبد العزيز، الذي دعا عددا من
الشخصيات لتزويده بآراء كتابية بشأن الإصلاحات المنتظرة، وبعدها كشف
الأستاذ علال الفاسي في " حفريات عن الحركة الدستورية في المغرب قبل
الحماية " عن مذكرة الحاج علي الزنيبر السلاوي التي يمكن اعتبارها أول نص
تتوفر فيه بعض مواصفات الوثيقة الدستورية، إضافة إلى مذكرة إصلاحية أخرى
لمؤلف مجهول أعلن عنها علال الفاسي سنة 1968، واعتبرها عبد الكريم غلاب
أكثر من نص دستوري، ويبقى مشروع دستور 1908 أهمها على الإطلاق، رغم أن
الأستاذ عبد الله العروي يذهب إلى أنه ليس هناك شك بأن الوثيقة هي تبن
للدستور العثماني في 23 ديسمبر 1876 الذي دخل حيز التطبيق في 24 يوليوز
1908، فإن المشروع يمكن اعتباره أول محاولة جادة وصادقة في نقل حقوق
الإنسان داخل الدولة الشريفة من مجال الشرع الإسلامي إلى مجال القانون
الوضعي، حيث منع العقوبات الجسدية اللاإنسانية، وجعل المذهب المالكي مذهبا
رسميا للدولة ومن فاس عاصمة للدولة الشريفة المستقلة .
وهكذا، فالتجربة الريفية التي استطاعت أن تكسر الصمت الرهيب لجماهير
القرويين حول قضية الشأن العام، لم تمارس أية جاذبية على مشروع الوطنيين،
وهذا ما دفع بالباحث القانوني محمد المدني في العدد السادس من مجلة " أبحاث
" خلال 1984 إلى القول: " ومن المتفق عليه بصفة جماعية أن تأثير عبد
الكريم على الوطنيين كان غير ذي معنى، فهؤلاء لم يظهروا أي اهتمام سياسي
حقيقي تجاه التجربة الريفية، رغم أن هذه التجربة شرعت منذ انتصار" أنوال"
سنة 1921 في إنشاء " جمعية وطنية " وتنظيم السلطات وإنشاء " نظام قضائي "
وإملاء " مشروع مخطوط دستور " التهمته ألسنة نيران الغزو الاستعماري
الإسباني، بين أرشيفات ووثائق كانت مخزونة في مدرسة أجدير، عند الاحتلال
الإجرامي الإسباني للمنطقة .
وحسب الأستاذ عبد الله العروي،" فإن الوطنيين لم يرتبطوا إلا بالمظهر
العاطفي للتجربة، والطابع المحلي أو حتى الأسطوري لشخص عبد الكريم، ومع طرح
السؤال على بعض القادة الوطنيين ... ما هو التأثير الذي كان لعبد الكريم
على تطوركم الثقافي؟ يجيبون بأنهم سمعوا عنه دائما على أنه بطل ملحمي، ورجل
عرف كيف يقف في وجه جيش قوي، فالمظهر العسكري والعاطفي كما يلاحظ العروي
يطغى بصفة قوية على ما يمكن أن يكون تحليل موضوعي ودقيق لمكامن القوة
والضعف في تجربة عبد الكريم " .
وقد تفطن أيضا، الأستاذ علال الفاسي إلى هذه النظرة الاختزالية
والانتقائية، فعمل على تصحيحها في كتابه: " الحركات الاستقلالية في المغرب
العربي " في الفصل أو الموضوع المعنون ب " دستور الجمهورية الريفية " إذ
ينص الأستاذ والزعيم على " فالجمهورية لم تفهم على أنها شكل لتنظيم الدولة،
ولكن كإجراء مؤقت فقط ، فرضته الظروف، في انتظار التحرر الكامل لسائر
أبناء الوطن لتسليم البلاد المحررة لمآلها الشرعي ولصاحب العرش، ولم
يطالبوا بأكثر من تطبيق نظام دستوري يحقق رغبات الشعب في مراقبة أعمال
الدولة والتعاون على تسييرها، ولم يريدوا أن يقعوا في الخطأ الذي وقع فيه
الهبة ووالده ماء العينين حينما أعلنا نفسيهما ملكين ....." (ص: 139 ) "
الطبعة الجديدة " .
وفي
إشارة إلى تلك القطيعة المبكرة التي حدثت بين زعيم حرب التحرير الريفية
محمد بن عبد الكريم الخطابي والقادة الوطنيون الجدد يذكر السوسيولوجي
العسكري " روبر مونطاني " بعضا من أوجه ملامح هذه القطيعة في كتابه:
"REVOLUTION AU MAROC " " الثورة في المغرب " ( ... رجل القبيلة، المحارب،
الفلاح، الواقعي والجدي في نفس الوقت، مع الشباب السياسي (الذكي ) الذي نشأ
في الفوضى الأخلاقية للمدن ) " ص : 174 ، من كتاب مونطاني المذكور " .
وفي
كتاب " الحركات الاستقلالية في المغرب العربي " ينتقد ويقلل الزعيم السلفي
الأستاذ علال الفاسي من التجربة الريفية ويؤاخذ عليها بصراحة عدم وضعها
لفصل واضح بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، تمشيا مع العرف
الدستوري الجاري به العمل في الدول الديمقرا طية ... وفي سياق التطور
النيابي والدستوري الذي وقع بعد حصول المغرب على الاستقلال، تطرق الأستاذ
عادل عبد اللطيف في نفس العدد من مجلة " أبحاث " ( ص : 35 )، إلى العلاقة
التي ربطت الحركة الوطنية مع الفصل التاسع عشر من الدستور، باعتبارها تجسد
مظهرا آخر لنزوع المحافظة لديها، وأنها عكست من خلاله ميلها الراجح نحو
النموذج الخليفي ( نسبة إلى الخليفة)، على حساب الطموح نحو العلاقة
التعاقدية ... " .
وعلى
سبيل الختم ، فمن المعلوم أن أول دستور مغربي مكتوب تم وضعه سنة 1962، أي
بعد وفاة المغفور له جلالة الملك محمد الخامس، الذي يمكن اعتباره حسب قول
الأستاذ عبد العلي حامي الدين في كتابه ( الدستور المغربي ورهان موازين
القوى ) " المنظر الإيديولوجي " للمرحلة الدستورية ولأهم الخطوات التي سبقت
الإعلان عن الدستور، وذلك انطلاقا من أسس مرجعية ثابتة، وانسجاما مع
مفاهيم الدولة الحديثة ومرتكزاتها الدستورية كالديمقراطية، والتمثيلية
النيابية، وفصل السلط، والمشاركة الشعبية، ولذلك فإن خطاب محمد الخامس حول
المسألة الدستورية، كان عبارة عن مزيج يتكون من عناصر المحافظة والتقليد
بالإضافة إلى مستلزمات المعاصرة والتحديث.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق