كان فتح الأندلس، وتنظيم أمورها في الأساس شأن ولاة إفريقية. وكان الفتح في العقد الأخير للقرن الأول الهجري(92-95هـ/711-714م).
وقد
وضعت التنظيمات التي تخص معاملة الأراضي المفتوحة وأهلها واستقرت في
المشرق خلال القرن الأول الهجري، ويفترض أن تطبق على الأندلس، ولكن الكثير
من الروايات تعطي صورة مخالفة.
ابتداءً نشير إلى الإجراءات التي اتخذت في فتح إفريقية والمغرب، لتكون مدخلاً إلى الحديث عن معاملة الأرض في الأندلس.
يبدو أنّ الغارات في إفريقية كان يرافقها كثرة الغنائم، والسبي خاصة، وإرسال الخمس إلى المركز.
وكان
للسبي أهمية خاصة بالنسبة للخلفاء. يقول ابن عذاري: " وكان الخلفاء
بالمشرق يستحبون طرائف المغرب ويبعثون بها إلى عمّال إفريقية فيبعثون لهم
البربريات".
وترد
الإشارة الأولى إلى تنظيم الخراج زمن حسّان بن النعمان (74-85هـ/
694-704م)، فيذكر ابن عبد الحكم عن حسان أنه " دوّن الدواوين ووضع الخراج
على عجم إفريقية ومن أقام معهم على النصرانية من البربر، وعامتهم من
البرانس(المستقرين) إلاّ قليلاً من البتر(البدو)" .
ويذكر
المالكي عن حسّان " فلمّا رأت الروم (شدته) وقهره (لهم وعلموا) أنهم لا
قوام لهم به سألوه الصلح وأن يضع عليهم الخراج فأجابهم إلى ذلك".
ويتطرق
المالكي إلى سياسة حسّان بن النعمان مع البربر فيقول: إنّ "البربر
استأمنوا إليه فلم يقبل أمانهم حتى أعطوه اثني عشر ألف فارس يكونون مع
العرب مجاهدين، فأجابوه وأسلموا على يديه"، ولم يكتف بذلك، بل "وأخرجهم مع
العرب يفتحون إفريقية". ويضيف "فمن ذلك صارت الخطط للبربر بإفريقية، فكان
يقسم الفيء بينهم والأرض.فدانت له إفريقية ودوّن الدواوين". ويقول ابن
عذاري: إنّه في سنة 82هـ/701م" استقامت بلاد إفريقية لحسّان بن النعمان
فدوّن الدواوين وصالح على الخراج وكتبه على عجم إفريقية ومن أقام معهم على
دين النصرانية . أي أنّ الخراج فرض على الروم والنصارى الآخرين مع الأفارقة
والبربر.
وقد جعل حسّان الدواوين، ومنها ديوان الخراج إلى جانب دار الإمارة.
هكذا
يتبين أنّ الخراج فرض على الأرض، وأنّ البربر في إفريقية وبتأثير سياسة
حسّان أسلموا، وشاركوا في الجهاد وبالتالي في الفيء، وهذا يعني ترك أراضيهم
بأيديهم، ولن يكون لهم بعد ذلك من الأرض شيء إلاّ من الصوافي، فالمالكي
نفسه يقول:" واستقامت إفريقية كلها، وآمن أهلها، وقطع الله عز وجل مدة أهل
الكفر بها، وصارت دار إسلام إلى وقتنا هذا".
وأخضع
موسى بن نصير المغرب، وانتشر الإسلام بين أهله. ومع ذلك يبدو أنّ الإسلام
عمّ في المغرب في ولاية إسماعيل بن أبي المهاجر الذي ولاّه عمر بن عبد
العزيز على إفريقية سنة 100هـ/718م الذي " كان حريصاً على دعاء البربر إلى
الإسلام حتى أسلم بقية البربر بإفريقية على يديه في دولة عمر بن عبد
العزيز".
وينتظر أن لا
يدفع الخراج من أسلم قبل أن يقدر عليه، بل يدفع العشر. ولا نسمع عن مشكلة
كبرى مع البربر إلاّ أيام هشام بن عبد الملك في ثورة ميسرة(الحقير) المدغري
سنة 122هـ/739م، وسببها المباشر تعسف أمير إفريقية عبيد الله بن الحبحاب
(116-123هـ/734-741م)، وظلم عامله على طنجة. يقول ابن عذاري: "فلما أفضى
الأمر إلى ابن الحبحاب منّاهم (الأمويين) بالكثير وتكلف لهم أو كلفوه أكثر
مما كان، فاضطر إلى التعسف وسوء السيرة، فحينئذٍ عدت البرابر على عاملهم
على طنجة فقتلوه وثاروا بأجمعهم على ابن الحبحاب". ويضيف ابن عذاري:"ثم إنّ
عمر بن عبدالله المرادي، عامل طنجة وما والاها، أساء السيرة وتعدّى في
الصدقات والعشر، وأراد تخميس البربر وزعم أنهم فيء المسلمين، وذلك ما لم
يرتكبه عامل قبله، وإنما كان الولاة يخمسون من لم يجب الإسلام، فكان فعله
الذميم سبباً لنقض البلاد وخروج الفتن العظيمة".
وواضح
أنّ إجراءات عامل طنجة تخص المسلمين، وأن سبي البربر المسلمين مخالف
للمفهوم الإسلامي، كما أنّ الزيادة في العشر على الأرض وفي الصدقات هو
تجاوز وجور على المسلمين.
هكذا
يتبين أنّ أراضي إفريقية صارت خراجية، إلاّ تلك التي أسلم عليها أهلها،
وصارت إفريقية دار إسلام بدءاً بولاية حسان. ويلاحظ أنّ الأمويين حبذوا
السبي من البربر غير المسلمين، الذي خمس، بينما ردّ عمر بن الخطاب السبي في
السواد والأهواز مثلاً لأنه رأى أنّ إبقاء الفلاحين على الأرض أجدى.
وينتظر
أن يثير الفقهاء في إفريقية مسألة الصلح والعنوة، وهي مسألة ظهرت زمن
المروانيين من بني أمية بالنسبة لإمكان زيادة الضرائب( الجزية والخراج)،
كما فعل عبد الملك في الجزيرة الفراتية والشام، ولمعاملة الأرض بعد الفتح
بين اعتبارها غنيمة أو فيئاً للأمّة. وقد تناولها الداودي (ت402هـ/1011م)،
في روايته وهو يروي عن سحنون(ت240هـ/855م)، قال: " كشفت عن أرض إفريقية فلم
أقف منها عن حقيقة هل هي عنوة أو صلح، وسألت عن ذلك علي بن
زياد(ت183هـ/799م) فقال لم يصح عندي فيها شيء". ثم يقول الداودي " إذا خفي
خبر الأرض ولم يعلم هل هي صلح أو عنوة أو أسلم عليها أربابها فهي لمن وجدت
في يده، وإن كان لا يُدرى بأي وجه صارت إليه" . ويضيف " وأمّا بلاد
المصامدة وأرض مراكش، قال ابن عبد الحكم: اتفق أشياخنا من أهل العلم أنها
أسلم عليها أربابها، وليس فيها صلح ولا عنوة". ويورد الداودي رواية: " قيل:
إنّ منها ما افتتح عنوة ومنها ما افتتح صلحاً"، وهو قول لا دلالة فيه.
ويورد رواية أخرى:" إنّ إفريقية، من طرابلس إلى طنجة، تجري على ما تواطأت
عليه القرون في أمرها، وتقر بأيدي مالكها". وهذه الرواية تستثني ما اغتصب
أو ما أخذ قسراً أو ما أجلي عنه أهله " بالأخماس"، وربط الجلاء بالأخماس
يشير لأراضٍ سبي أهلها أو جلوا عنها وصارت في حكم الصوافي.
وتبقى
إشارة سحنون، الفقيه الكبير، بأنّ الصلح أو العنوة ليست واردة، وأما إشارة
ابن عبد الحكم إلى الأراضي التي أسلم عليها أهلها، فتعني الإقرار بأنّ
الأرض تركت بأيدي أصحابها.
-
وحين ننظر للأندلس لا نجد ما يدعو لاتخاذ أسس في معاملة الأرض وفي الضرائب
تختلف عمّا سار عليه الأمويون في المشرق، وفي إفريقية. وقد يكون للأوضاع
المحلية في الأندلس بعض الأثر في التطبيق في إطار الأسس/المبادئ العامة.
يلاحظ
هنا أنّ الأندلس اعتبرت ابتداءً "ثغراً" و"دار جهاد" لأنّ البحر يفصلها عن
البلاد الإسلامية، ولأنها أمام الأعداء في الشمال والغرب. وكانت إسبانيا
تحت حكم القوط ، وهؤلاء-كفاتحين آنئذٍ- كانوا يأخذون الثلث من الأرض أو من
ناتجها.
وكانت إسبانيا
مقسمة إلى عدد من المقاطعات، يحكم كلا منها دوق، وتضم كل مقاطعة عدداً من
الوحدات الإداريّة يحكم كلاً منها قومس(كونت). وتقوم الوحدة على المدينة/
القلعة وما يرجع إليها من قرى وضياع وأراضٍ زراعية . وقد استمر هذا الوضع
في الفترة الإسلامية، بمعدل سبع إلى عشر قرى لكل مدينة ، وصار يطلق على
المدينة وتوابعها بعد الفتح اسم الكورة .
إنّ
المصادر العربية عن فتح الأندلس جاءت متأخرة كما إِنّ معلوماتها قليلة
وذلك يكوّن مشكلة للباحث وليس له إلاّ أن يبحث عن أية إشارات مفيدة. وهنا
ننوه بمصدر إسباني كتب حوالي منتصف القرن الثامن الميلادي (الثاني للهجرة)،
وتناول الفتح والفترة الأولى بعده، وهو بحكم المعاصر للأحداث، ويشار إليه
بـ "تاريخ 754".
يلاحظ
ابتداءً أنّ أولى معارك الفتح كانت في وادي لكّة إذ دخل لذريق ومعه
ملوك/أمراء الأندلس الموالين له- معركة حاسمة مع المسلمين بقيادة طارق بن
زياد وانتهت بتدمير الجيش القوطي(في28رمضان 92هـ/19تموز 711م). وجمع طارق
"الفيء" (الغنيمة) وقسمه .
أمّا
المواجهات التالية فكانت بين الأمراء المحليين(أو الكونتات جمع كونت)
والمسلمين. فمثلاً تقدم طارق إلى إسْتِجَّة حيث تجمّع فلال معركة وادي
لكّة، وبعد قتال شديد صالحت إسْتِجَّة على الجزية . ويقول المقري" ولم يلق
المسلمون فيما بعد ذلك حرباً مثلها".
وواجه تدمير (الأمير المحلي) المسلمين ومركزه أوريولة وبعد قتال شديد صالح على جزية محددة عن كل فرد .
ويذكر
الحميري أنّ مدينة وَشْقَة حوصرت حصاراً طويلاً حتى بنى المسلمون المساكن
وغرسوا الغروس وحرثوا لمعايشهم واستمر الحصار سبعة أعوام، ثمّ " استأمنوا
لأنفسهم وذراريهم، فمن دخل الإسلام ملك نفسه وماله وحرمته، ومن أقام على
النصرانية أدى الجزية" .
وهكذا نجد الإشارات إلى فرض
الجزية على من خضع بعد القتال وعلى من صالح. ولا ترد إشارة إلى معاملة
الأرض، كما هو الحال في الفتوح عامة، لأنّ ذلك يأتي بعد الفتح واستقرار
الأمور.
واستولى موسى بن
نصير على ماردة سنة 94هـ/713م، بعد مقاومة شديدة، "فنالوا من المسلمين
دفعات وآذوهم"، وصالح أهلها على أنّ " جميع أموال القتلى يوم الكمين وأموال
الهاربين إلى جليقية، للمسلمين، وأموال الكنائس وحليها لها".
وهنا
اعتبرت أموال القتلى في معركة يوم الكمين، وأموال الهاربين إلى جليقية
وكذلك أموال الكنائس وحليها غنيمة. وبالتالي فالأراضي تكون صوافي، وهي -
كما قرر عمر بن الخطاب - فيء (غنيمة) للمقاتلة. وسنتناول موضوع الصوافي
لاحقاً.
- ولا يهمنا الدخول في تفاصيل سير حركة الفتح على يد طارق بن زياد، ثم موسى بن نصير، بل نكتفي بالإشارات التي تتصل بموضوع البحث.
وهنا
تواجهنا روايات، لا تخلو من تضارب وتباين، وبخاصة في كتاب رحلة الوزير (أو
الرّسالة الشريفية) تنسب إلى موسى بن نصير اتخاذ إجراءات في الأراضي
المفتوحة.
جاء في رواية
أنّ موسى بن نصير فتح البلاد من عمل إشبيلية " فبدأ بها...ثمّ سار منها إلى
لبلة ثمّ إلى باجة ثم إلى أكشبونة على سيف البحر، فافتتحها أجمع سلماً".
وفي رواية لمحمد بن موسى الرازي (ت277هـ/890م) إشارة إلى تحرك موسى بن نصير
في الاتجاه نفسه من إشبييلة إلى أكشبونة، من دون وصف طبيعة الفتح. والقول
إنّ الفتح كان سلماً يعني أداء المغلوبين الجزية للمسلمين مع بقائهم في
أراضيهم.
ويورد الغساني
رواية عن محمد بن مزين(ت471هـ/1078م) نقلاً عن محمد بن موسى الرازي
(ت277هـ/890م)، في سِفْره (الرايات)، أنه حين تمّ افتتاح الأندلس " قسمها
موسى بن نصير البكري التابعي بين الجيوش الذين دخلوها كما قسّم بينهم سبيها
ومتاعها وسائر مغانمها، وأخرج من أرضها ورباعها الخمس، كما أخرجه من سبيها
ومتاعها. واختار من خيار السبي وصغاره مئة ألف وحملهم إلى أمير المؤمنين
الوليد بن عبد الملك، وترك سائر الخمس من كبل وسبي ووخش الرقيق، في الخمس
من الأرضين يعمرونها ليثلّث مال المسلمين، وهم أهل البسائط، وكانوا يعرفون
الأخماس وأولادهم بنو الأخمس"، وأضاف " وأمّا سائر النصارى الذين كانوا في
المعاقل المنيعة والجبال الشامخة، فأقرهم موسى بن نصير على أموالهم ودينهم
بأداء الجزيةـ وهم الذين بقوا على ما حيز من أموالهم بأرض الشمال لأنهم
صالحوا على جزء منها مع أداء الجزية في أرض الثمرة وأرض الزرع على ما فعله
خير من اقتدي به صلى الله عليه وسلم بيهود خيبر في نخيلهم وأراضيهم". ثمّ
قال:" "فلم يبق بالأندلس بلدة دخلها المسلمون بأسيافهم، وأصبحت ملكاً لهم،
إلاّ وقسّم موسى بن نصير بينهم أراضيها إلاّ ثلاثة بلاد، وهي شنترين
وقلنبرية في الغرب وشيه في الشرق، وسائر البلاد خمست وقسمت...ثمّ توارث
الأراضي الأبناء عن الآباء. والذي ذكره الناس والعلماء من أرض (الصلح) وأرض
العنوة بالأندلس فإنما هو مال الخمس، هو أرض العنوة، وما صولحوا عليه فهو
حال الشمل من أرض وشجر لا سائر أموال الناس".
وهذه
الرواية قلقة، فهي تبين أنّ أكثر الأراضي فتحت عنوة، مع أنّ المواجهة، بعد
المعركة الحاسمة مع لذريق، كانت مع حكام المدن الذين كانوا يصالحون عن
مدنهم عادة.
وأورد
الغساني رواية أخرى تشعر بذلك، " وقال بعض علماء السلف بأمر الأندلس أنّ
أكثرها إنما فتح صلحاً إلاّ الأقل من مواضع معروفة وأنه لما هزم لذريق لم
يقف المسلمون بعد ذلك ببلد إلاّ أذعنوا إلى الصلح، ولذلك بقي الروم فيها
على أرضهم وأموالهم يبيعون ويباع منهم". وهي رواية واضحة الدلالة في أنّ
الأرض بقيت لأهلها يتصرفون بها وأنها صارت خراجية .
كما
أنّ رواية محمد بن مزين(عن محمد بن موسى الرازي)؛ التي تتحدث عن أراضي
العنوة التي يفترض أنها صارت غنيمة للمسلمين، تبين أنها تدفع الثلث لهم،
وهو ما كان يدفع للقوط من قبل ، فهو بمثابة الخراج. وأمّا أرض الصلح فقد
قرنتها الرواية بإجراءات الرسول صلى الله عليه وسلم في خيبر، علماً بأنّ
خيبر اعتبرت غنيمة وخمست، وهذا عكس ما تدّعيه الرواية. وتبين الرواية أنّ
أهل الصلح (في أرض الشمال)" صالحوا على جزء منها (الأرض) مع أداء الجزية"،
وهو مثل ما ذكر عن أرض العنوة، من دفع الثلث( من الأرض أو من حاصلها) في
الخراج، إضافة إلى الجزية.
من كل ذلك يتبين أن الأرض في عامتها- سواء اعتبرت أرض صلح، أو أرض عنوة-صارت خراجيّة.
وبعد
هذا يورد الغساني رواية تفيد أنّ موسى بن نصير وجماعة من فاتحي الأندلس
وفدوا على الوليد" يستأذنونه في إخلائها والرحيل عنها إلى أوطانهم فقربهم
وآنسهم وأقطعهم الإقطاعات فيها وأقرهم...ولم يجعل لهم سبيلاً إلى الخروج
منها..." ، وهذه الرواية تثير التساؤل، فلماذا يقطعهم الوليد إقطاعات إذا
كانت الأراضي وزعت عليهم بعد التخميس؟ ولماذا يطلبون الرحيل عن البلاد بعد
تملكهم الأراضي؟ أليس في هذا التباس مع ما حصل زمن عمر بن عبد العزيز(كما
سنرى)؟.وجاء في رواية أخرى أنّ الوليد أقرهم (أي الفاتحين) على ما"قسم موسى
بن نصير" بينهم وسجل لهم به، وأقطع من دخل الأندلس بعدهم من الخمس
إقطاعات، علماً بأنّ موسى بن نصير وصل إلى دمشق والوليد في مرضه الأخير،
وكأن هذه الرواية تنسب للوليد ما قام به عمر بن عبد العزيز.
كما أن فترة ولاية موسى بن نصير كانت فترة قصيرة، حافلة بأعمال الفتح حتى آخر أيامه ولا تتسع لتنظيم الأرض والضرائب.
وبعد
هذا، فإنّ عدد الفاتحين كان قليلاً، حوالي(25.000)، وكانت الحاجة ملحة إلى
حاميات في المدن الرئيسة، ولا مجال لانتشارهم على الأرض.
وهنا
نذكر أنّ التخميس في البلاد المفتوحة من أيام الراشدين لم يشمل إلاّ
الصوافي، إذ إنّ عمر بن الخطاب قرر أنّ أرض الصوافي فيء (أي غنيمة)
للمقاتلة، أربعة أخماسها لهم ولبيت المال خمسها. ثم ضمّت أرض الصوافي لبيت
المال في أيام معاوية.
والصوافي
في الأساس أراضي الأسر الحاكمة السابقة وأراضي بعض النبلاء، ومن قتل أو
جلا أثناء الحرب، وكل أرض من دون مالك بعد الفتح مباشرة .
ويبدو
أنّ أرض الصوافي في الأندلس كانت واسعة، فضياع أولاد الملك غيطشة((Wittiza
مثلاً كانت ثلاثة آلاف ضيعة . وللملك ضياعه العائلية إضافة إلى ضياع
التاج، ولا بد من أنّ ضياع لذريق العائلية والملكية كانت كثيرة وبخاصة في
منطقة قرطبة حتى أنهم سموا قرطبة بلاط لذريق، وقد اعتبرت هذه من الصوافي،
وهذا يصدق على أرض من جلا أو قتل أثناء الحرب .
ولا
يخفى أنّ أملاك النبلاء الذين قتلوا أو هربوا كانت واسعة. يذكر
كتاب(التاريخ 754) أنّ موسى بن نصير أعدم في طليطلة بعض النبلاء الذين كانت
لهم صلة بهرب (أوبة) أخ الملك غيطشة .
ويشير
كتاب (أخبار مجموعة) إلى أسر ملك قرطبة من مغيث مولى الوليد ويقول: " ولم
يؤسر من ملوك الأندلس غيره، منهم من عقد على نفسه أماناً ومنهم من هرب إلى
جليقية". فمن حصل على الأمان حفظ أرضه كما فعل صاحب تدمير، ومن هرب اعتبرت
أراضيه صوافي. وفي أخبار مجموعة أنّ تدمير عقد على نفسه الصلح وعلى أهل
بلده فصارت تدمير صلحاً كلها...وعاملهم على ترك أمواله في يديه"، وترد
إشارات إلى هرب الكثير من السكان من وجه القوات الفاتحة، كما أنّ أعداد
السبي تبدو كبيرة .
نشط
عبد العزيز بن موسى بن نصير في ولايته( صفر95هـ- رجب
97هـ/نوفمبر713/مارس716) لفتح جنوب شرق الأندلس (مالقة، غرناطة،
مرسية) ونقل مركز الحكم إلى إشبيلية .
ويفهم
من (التاريخ 754) أنّ فترة ولاية عبد العزيز-(ويجعلها 712-715م)
أي(94-97هـ)- كانت مهمة في أنها أسست حكم المسلمين في شبه الجزيرة، ويقول
إنّ عبد العزيز كان" خلال ثلاث سنوات يخضع إسبانيا سلمياً إلى عبء
الضرائب". وهذا يعني أنه بدأ بتنظيم الإدارة، بما في ذلك القيام بإحصاء
السكان لفرض الجزية، والنظر في أمور الخراج وتهدئة البلاد .
ويهمنا
هنا صلح عبد العزيز بن موسى بن نصير مع تدمير((Theodomir، سيّد سبع مدن
وما يتبعها من أراضي جنوب شرق الأندلس، وجاء فيه " أنه (أي تدمير) نزل على
الصلح، وأن له عهد الله وذمته، أن لا ينزع عنه ملكه ، ولا أحداً من النصارى
عن أملاكه، وأنهم لا يُقتلون ولا يسبون، أولادهم ولا نساؤهم، ولا يُكرهون
على دينهم ولا تحرق كنائسهم ما تعبد، وما نصح، وأنّ الذي اشترط عليه أنه
صالح على سبع مدائن، أوريولة وبلنتلة ولَقَنْت ومولة وبَقْرة وأنّة ولورقة.
وأنه لا يأوي لنا عدواً، ولا يخيف لنا آمناً، ولا يكتم خبراً علمه، وأنّ
عليه وعلى أصحابه ديناراً كل سنة وأربعة أمداد قمح وأربعة أمداد شعير
وأربعة أقساط طلا وأربعة أقساط خل وقسطي عسل وقسطي زيت، وعلى العبد نصف
ذلك، كتب في رجب 94هـ" أي نيسان 713م .
هذا
الصلح ترك الإدارة المحلية بيد تدمير، وحفظ له أمواله، وأمن رعيته على
أنفسهم وأهليهم وأموالهم وكنائسهم، على دفع جزية سنوية، عن كل فرد، ديناراً
ومواد طعام عينية، كما ذكر. وهو صلح يشبه في الأساس عهود الصلح الإسلامية
في المشرق. ولا ينتظر أن يكون هذا هو الصلح الوحيد، والأرجح أنّ سلسلة عهود
مماثلة عقدت مع عدد من المدن من خلال الكونتات أو مجالس المدن حسب
الأوضاع. وهناك ما يدعو للاعتقاد بأنّ صلحاً مماثلاً عقد مع أهالي بنبلونة .
ومثل هذا الصلح يدل على
أنّ ملكية الأرض لم تتأثر بأحداث الفتح، فقد كان القوط يفرضون الثلث على
الأرض، فاستمر هذا أو ما يقرب منه بعد الفتح .
أمّا
مقادير الجزية فلا تتطابق مع ما فرض في بعض جهات المشرق(ربما باستثناء
النقد). ولعلها أقرب إلى الأعراف القوطية، ويمكن الافتراض أنّ مقادير
الجزية تختلف من موقع لآخر في المواد العينية . ومثل هذه الترتيبات مناسبة
للفاتحين في البداية لأنَّها تجعل المقاتلة أكثر حريّة في متابعة الفتح من
دون الحاجة إلى ترك حاميات في المدن كافة ، خاصة وأنّ قوّات الفاتحين كانت
متواضعة.
يتبين إذن أنّ
شبه الجزيرة العربية شهدت ابتداءً أنموذجين للإدارة: الأول جهات بقي لها
أمراء محليون، مثل تدمير، والثاني جهات تدار مباشرة من العرب، ووضعت حاميات
في مدنها الرئيسة.
وترد
إشارات يفهم منها أنّ بعض المقاتلة استولوا على أراضٍ في فترة الفتوح،
ويرجح أنها كانت- على الأغلب- من الأراضي الخالية، نتيجة مقتل أصحابها أو
جلائهم، وهذه من الصوافي، فملكوها وبقوا عليها . ويشير المقري إلى الوضع
بوضوح إذ يقول: " وكانت العرب والبربر، كلما مرّ قوم منهم بموضع استحسنوه
حطوا به ونزلوه قاطنين فاتسع نطاق الإسلام بأرض الأندلس".
وقدم
الحرّ والياً على الأندلس ومعه400من الوجوه من إفريقية، في ذي الحجة
97هـ/آب716م وبقي إلى رمضان100هـ/نيسان 719م فكان والياً ثلاث سنين . ولا
يرد في المصادر العربية شيء عن إدارته إلاّ أنه نقل مقر الإمارة من إشبيلية
إلى قرطبة. ولكن يفهم من (التاريخ 754) أنه حقق شيئاً من النظام الإداري
بإرسال الموظفين الإداريين الرئيسين للمدن (ولاة). كما اهتم بمعاقبة البربر
الذين أخفوا بعض الغنائم. وأمّا بالنسبة للمسيحيين فيبدو أنّ الحرّ أتم ما
بدأه عبد العزيز من فرض الخراج على إسبانيا الخارجية (الشماليّة) . كما
أنه أعاد بعض الضياع التي استولى عليها العرب إلى أصحابها السابقين، ويرجح
أنها أراضي نبلاء وملاكين هربوا وعادوا إلى أراضيهم بعد استقرار الوضع
مقابل دفع الخراج . وبإيجاز فإنه نظّم الضرائب على أهل البلاد، وثبت نظام
الأراضي السائد قبل الفتح. وأبقى للفاتحين الأراضي التي صارت لهم.
وشهدت
هذه الفترة إدخال نقود عربية جديدة، "دنانير" على غرار نقد المملكة
القوطية، ولكن باللغتين العربية واللاتينية. ولعل هذا يشعر باستقرار
الإدارة.
- وتضطرب
الروايات مرة أخرى في إشاراتها إلى الإجراءات في فترة عمر ابن عبد العزيز.
ولّى عمر السمح بن مالك الخولاني على الأندلس في (رمضان100-ذي الحجة
102هـ/نيسان719-حزيران 721م)، ويروى أن الخليفة فكّر بسحب المقاتلة من
الأندلس " إذ خشي تغلب العدو عليهم" لكن السمح طمأنه على استقرار أمور
المسلمين فيها. ثم إنّ الخليفة أولى الأندلس عناية خاصّة فأفردها عن ولاية
إفريقية وجعلها ولاية بذاتها واعتبرها ثغراً وراعى ذلك في التعامل مع
الأرض.
وتتجه الروايات
إلى أنّ الخليفة أمر السمح بتخميس الأرض، لكنها تتباين في ذلك، هل هي أراضي
الأندلس عامّة أو بعضها.ففي رواية "أن ابن نصير قسّم وخمّس بعض البلاد،
وأعجلته حركته منها...فلمّا ولاّها...عمر بن عبد العزيز السمح بن مالك
الخولاني أمره أن يخمّس ما بقي منها". وقد سبق وأوضحت أنّ تنظيم التعامل مع
الأرض بدأ زمن عبد العزيز بن موسى بن نصير.
وفي
رواية للرازي عن عبد الملك بن حبيب(ت238هـ/852م) أنّ الخليفة أمر السمح"
أن يخمّس ما بقي من أرضها وعقارها- من دون إشارة إلى البدايات- ويخرج منها
خمس الله تعالى، ويقر القرى بأيدي أربابها. وفي "أخبار مجموعة" رواية تفيد
أنّ الخليفة أمر السمح " أن يخمّس أرضها ويخرج مما (الأصل ما) كان عنوة
خمساً لله، من أرضها وعقارها، ويقر القرى بأيدي غنّامها بعد أن يأخذ
الخمس".
وهي رواية في اتجاه رواية ابن حبيب نفسه إلا أنها تتحدث عن أرض الصلح وأرض العنوة، وهو حديث فقهي لم يكن له دور في الواقع.
وهكذا
يتبين أنّ القرى عامّة بقيت بأيدي أهلها، أي جُعلت أرضاً خراجيّة، وأنّ
التخميس بدأ من قبل، وأنه شمل الآن ما بقي من الأرض والعقار. وهكذا يتبين
أنّ القرى عامّة بقيت بأيدي أهلها، باستثناء أرض الصوافي.
تتجه
الروايات إلى أنّ الأرض التي خمّست هي أرض العنوة. ويلاحظ أنّ الحديث عن
أرض العنوة وأرض الصلح هو حديث فقهي ظهر في المشرق في أواسط الفترة
الأموية، في حين أنّ عامّة الأرض في البلاد المفتوحة اعتبرت خراجيّة.
وفي
رواية للرازي عن عبد الملك بن حبيب، أنّ السمح" ميّز أرض العنوة من أرض
الصلح ليصح الخمس" وتضيف أنه" لما أتم عمله خيّر الخليفة بما عمله في أرض
العنوة وأرض الشمل، وهي التي فتحت صلحاً". ثمّ تجعل الرواية معاملة هذه
الأرض وأرض العنوة معاملة واحدة، إذ تقول عن أرض الشمل: "فإنّ أهلها صولحوا
على الجزية مع أجزاء من الأرض منها مثالثة ومرابعة، كيف ما كان طيب الأرض
وغلتها" ويضيف "حسبما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر".
فالرواية تجعل معاملة أرض الصلح وأرض العنوة واحدة مع أنها تبين أنّ أرض
الشمل صولح أهلها على الجزية وعلى الثلث والربع من الأرض أو من واردها، أي
فرض الخراج على الأرض.
أمّا
ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم بخيبر فإنه اعتبرها غنيمة للمقاتلة ولم
يتبع مثل هذا الإجراء في أي بلد آخر في العصر الراشدي أو الأموي. إنّ
الأرض التي اعتبرت غنيمة للمقاتلة زمن الراشدين هي أرض الصوافي وحدها.
واعتبار الأندلس ثغراً أفضى إلى إقطاع المقاتلة منها بعد إخراج الخمس.
ويبين
عبد الملك بن حبيب أنّ السمح" ميّز أرض العنوة ليصح الخمس فينزل القسم
بتخميس قرطبة...وأخرجت البطحاء المعروفة بمصلى بقبلي قرطبة في الخمس" فأمر
الخليفة بجعل البطحاء مقبرة للمسلمين. وفي رواية أخرى أنّ البطحاء خرجت في
خمس قرطبة بقبليها.
وينفرد
ابن القوطية بالقول إنّ الخليفة وجه جابراً مولاه ليخمس الأندلس، فنزل
قرطبة، ثم أتته وفاة عمر فرفع يده عن التخميس. وهذه الرّوايات تشعر بأنّ
التخميس المهم حصل في منطقة قرطبة التي تتميز بسعة صوافيها.
بعد
هذا يلاحظ أنّ عمر بن عبد العزيز أوصى السمح بن مالك أن" يحمل الناس على
طريق الحق، ولا يعدل عن منهج الرّفق"، وهذا يشعر بحصول تعديات أو تجاوز على
أرض الخراج، وربما على الصوافي، كما حصل في المشرق، وحرص الخليفة على
العدل. وهذا يعني أن يطبق السمح سياسة الخليفة بالنسبة للأرض الخراجية وأرض
الصوافي.
ولعل الروايات
التالية تدعم ما ذكر. ترد رواية عن عبدالملك بن حبيب، وأخرى دون إسناد،
تفيدان: أنّ السمح دخل الأندلس ومعه "جيش من العرب"، وأراد النزول مع جندها
الأول في أموالهم(أراضيهم)، ولكن هؤلاء لم يقبلوا بأية مشاركة، وذهب وفد
منهم إلى الخليفة وشكوا إليه ذلك، وأبدوا استعدادهم للانسحاب والرجوع إلى
بلادهم، فمنعهم من ذلك وعقد لهم بإقرارهم على أموالهم على أساس أنّ الأندلس
ثغر، وذلك يوجب إقطاعهم الأراضي ليستقروا عليها كما فعل عمر بن الخطاب في
الثغور في المشرق، " وكتب إلى السمح أن يقطع الجند الذين دخلوا معه من
الأخماس"، أي إقطاعات جديدة في الصوافي.
ويرجح أنّ
أراضي خراجيّة تحوّلت إلى عشرية نتيجة تجاوز العرب عليها أو شرائهم لها،
إضافة إلى التجاوز على أراضي الصوافي، كما حصل في المشرق.
وقد
قرّر عمر بن عبد العزيز أنّ أرض الخراج هي فيء للأمّة، وأنها يجب أن تبقى
خراجيّة بدءاً من سنة 100هـ/ 718م(المدة)، لا يجوز بيعها منعاً لتحويلها
إلى عشريّة، كما قرر تمييز أرض الصوافي الباقية. التي هي غنيمة للمقاتلة،
ولكنها صارت- منذ أيام معاوية- تابعة للدولة تقطع منها أو تستغلها حسب
المصلحة.
وهكذا يتبين
أنّ السمح بن مالك جاء لتطبيق سياسة عمر بن عبد العزيز في الأندلس، في
تمييز أرض الخراج للحفاظ عليها فيئاً للأمّة، وإقرار أهل القرى عامّة على
أراضيهم على الخراج (إضافة للجزية)، وتحديد أرض الصوافي والإفادة منها بما
يناسب الأندلس ثغراً. يعني هذا أنّ أي تخميس للأراضي إنما كان لأرض الصوافي
ومنها كانت إقطاعات المقاتلة. وقبل هذا يبدو أنّ الأراضي التي أسلم عليها
أهلها قبل إجرائه المسح اعتبرت عشرية.
إنّ
بدايات تنظيم الضرائب والتعامل مع الأرض في الأندلس كانت-في الواقع- زمن
عبد العزيز بن موسى بن نصير، واستمرت زمن الحر، وشملت إعادة أراضٍ لأصحابها
الإسبان، بعد أن استولى عليها بعض المقاتلة، مع بقاء وضع الصوافي غير
محدّد أو مستقر.
ولذا ينتظر أن يطبّق عمر بن عبد العزيز إصلاحاته في الأندلس بالنسبة لأرض الخراج وللصوافي.
وينسب
(التاريخ 754) إلى السمح بن مالك الخولاني(718-721م) خطوتين مهمتين،
الأولى: أنه اتخذ تقديراً للضريبة لكل إسبانيا (الداخلة والخارجة، أو
الجنوبية والشمالية) وهذا يعني الاتجاه لتنظيم الخراج وتمييز الأرض
الخراجية في الأندلس عامّة.
والثانية:
أنه أجرى تقسيماً للغنائم(الأموال غير المنقولة) التي تركت من دون قسمة في
إسبانيا، وخصص نسبة من تلك الأموال(أو الأراضي) لبيت المال. وهكذا اتخذت
خطوات جديدة لإقامة إدارة على أسس منظمة، وتثبيت تقديرات الخراج، وتثبيت
الفتح بتنظيم وضع الأراضي الخراجية وأراضي المقاتلة الأول والقادمين الآن.
ومن هنا تتضح إشارة ابن عذاري إلى أنّ الخليفة أوصى السمح بأن" يحمل الناس على طريق الحق ويعدل بهم عن نهج الرفق".
وقد
يكون في إجراءات الوالي أبي الخطار(126هـ/744م) إثر الفتنة بين
البلديين(الداخلين زمن موسى بن نصير) والشاميين (الداخلين مع بلج بن بشر
سنة 125هـ/743م) ما يدل بوضوح على أنّ عامّة الأرض اعتبرت خراجيّة. ويقول
ابن القوطية:" ونظر أبو الخطار في إنزال الشاميين في كور الأندلس، وتفريقهم
عن قرطبة، إذ كانت لا تحملهم،...وكان إنزالهم على أموال أهل الذمة من
العجم، وبقي البلديون على غنائمهم لم ينقصهم شيء". فهو يبين أنّ أراضي
البلديين غنائم لهم، أي ملكهم، وأنّ الشاميين أنزلوا على أموال أهل الذمّة.
ويوضح
ابن الأبار(ت595-658هـ/1199-1260م) الوضع الجديد بقوله عن أبي الخطار:"
ولم يقدّم في ولايته الأندلس شيئاً على تفريق جمع العرب الشاميين، الغالبين
على البلد، عن دار الإمارة، قرطبة؛ إذ كانت لا تحملهم، وأنزلهم مع العرب
البلديين على شبه منازلهم في كور شامهم، وتوسع لهم في البلاد، فأنزل في
كورتي لشبونة وباجة جند مصر مع البلديين الأول، وأنزل باقيهم في كورة
تدمير، وأنزل في كورتي لبلة وإشبيلية جند حمص(مع البلديين) الأول أيضاً،
وأنزل في كورة شذونة والجزيرة جند فلسطين، وأنزل في كورة ريّة جند الأردن،
وأنزل في كورة البيرة جند دمشق، وأنزل في كورة جَيّان جند قنسرين. وجعل لهم
ثلث أموال أهل الذمة من العجم طعمة. وبقي البلديون من الجند الأول على ما
بأيديهم من أموالهم لم يعرض لهم في شيء منها، فلما رأوا بلاداً شبه بلادهم
خصباً وتوسعة سكنوا واغتبطوا وتمولوا. يتبيَّن من هذا النص أنّ الشاميين(أو
جلهم) أنزلوا في كور محددة مع البلديين، وأنّ أراضي تلك الكور(ومن بينها
تدمير) خراجيّة، وأنهم أعطوا "ثلث أموال أهل الذمة من العجم طعمة".
ويوضح
لسان الدين بن الخطيب طريقة التعامل مع الثلث في حديثه عن منطقة غرناطة
(البيرة) بقوله" ولما استقر بهذه الكورة الكريمة أهل الإسلام، وأنزل الأمير
أبو الخطار قبائل العرب الشاميين الكورة وأقطعهم ثلث أموال المعاهدين،
استمر ساكنهم في غمار من الروم، يعالجون فلاحة الأرض وعمران القرى، يرأسهم
أشياخ من أهل دينهم، أولو حنكة ودهاء ومداراة ومعرفة بالجباية اللازمة
لرؤوسهم". أي أنّ الفلاحين والزراع الأصليين استمروا على فلاحة الأرض ودفع
ثلث الحاصل، وهو الخراج عليهم، وليس في هذا تغيير عمّا كان عليه الوضع مع
القوط، كما يتضح أنّ هذه الكور كانت أرضها خراجية شأن تدمير ولا شأن لها
بأرض البلديين.
ممّا مرّ
يتبين أنّ الفاتحين استولوا على أراضٍ أعجبتهم خلال الفتح واستقروا عليها،
ولعل أكثرها من الأراضي الخالية (وتدخل في الصوافي)، وأنّ بداية الإجراءات
في معاملة الأراضي وتنظيم الضرائب كانت أيام عبد العزيز ابن موسى بن نصير،
وأنها تمت على خطوات عبر حوالي عشر سنوات، وأنّ الأرض عامة صارت أرض خراج.
وأن أراضي الصوافي كانت واسعة، وهذه هي التي خمست، وتمّ ذلك في ولاية السمح
بن مالك في خلافة عمر بن عبد العزيز. كما أنّ أملاك الفاتحين أقرت وسجلت
في زمنه. ثم إنّ الشاميين أنزلوا من الوالي أبي الخطار في كور أراضيها
خراجية، وأعطوا الثلث من واردها وهو خراجها.
هذا
هو الواقع التاريخي للتطورات الحاصلة في التعامل مع الأراضي في الأندلس،
ومن شأن الفقهاء أن ينظروا إلى الممارسات في سبيل بلورة المفاهيم الفقهية،
فيقبلون بعضها أو يعيدون النظر في البعض الآخر، رفضاً أوتعديلاً. يقول
الداودي:" وأمّا أرض الأندلس فقد طعن فيها بعض الناس وزعم أنها، أو أكثرها،
فتحت عنوة، وأنها لم تخمس ولم تقسم، غير أنّ كلّ قوم وثبوا على طائفة منها
بغير إقطاع من الإمام ولم تترك لمن يأتي من المسلمين". وهذا يذكر بما فعله
بعض المقاتلة في السواد والأهواز زمن عمر بن الخطاب من الاستيلاء على
أراضٍ خالية(أو صوافٍ)، ولكن الخليفة أوقف ذلك آنئذٍ.
وأورد
الداودي رأياً آخر لا يشير إلى صلح أو عنوة إذ يقول: " أدركنا أهل الفقه
والورع في بلاد الأندلس يشترون الأرض فيها ويبيعون، ونحن متبعون لهم". وهذا
يعني أنّ الأرض تركت بأيدي أهلها على الخراج، وأنّ المسلمين يستطيعون شراء
الأرض كما حصل في المشرق.
وهذا
يذكّر برواية تفيد " أنه لما هزم لذريق لم يقف المسلمون بعد ذلك ببلد إلاّ
أذعنوا إلى الصلح، ولذلك بقي الروم على أرضهم وأموالهم، يبيعون ويباع
منهم"، وبذلك تكون الأرض عامة خراجية.
ولعل
ابن حزم (ت456هـ/1064م) كان أكثر وضوحاً ودلالة حين يقول:" هذا ما لم نزل
نسمعه سماع استفاضة، توجب العلم الضروري، إنّ الأندلس لم تخمّس وتقسم كما
فعل رسول الله عليه السلام فيما فتح، ولا استطيبت أنفس المستفتحين وأقرت
لجميع المسلمين كما فعل عمر رضي الله عنه فيما فتح، لكن نفذ الحكم فيها
"لكل يد ما أخذت"، ووقعت غلبة بعد غلبة، ثمّ دخل البربر (و) الأفارقة
فغلبوا على كثير من القرى من دون قسمة. ثم دخل الشاميون في طالعة بلج بن
بشر بن غياض فأخرجوا أكثر العرب والبربر المعروفين بالبلديين عمّا كان
بأيديهم، كما ترون الآن من فعل البربر ولا فرق".
لقد
دقّق ابن حزم فيما قال، فأوضح أنّه سمع"سماع استفاضة توجب العلم"، ليبين
أنه لم تتبع في الأندلس إجراءات الرسول صلى الله عليه وسلم في أراضي خيبر
حين اعتبرها غنيمة وخمسها، ولم يتبع ما فعله عمر في اعتبار الأرض فيئاً
للمسلمين، بل تركت الأرض من دون قرار عام بشأنها، فغلب المقاتلة على
الأراضي وتملكوها وفق مفهوم" لكل يد ما أخذت"، وتكرر ذلك بعدئذ. ويفهم من
ذلك أنّ عامة الأراضي تركت لأصحابها على الخراج. وجاء التنظيم النهائي
للأرض والخراج زمن عمر بن عبد العزيز.
ويلاحظ
أيضاً أنّ البلديين كانوا يدفعون العشر على أراضيهم، أي أنها كانت ملكاً
لهم، أمّا الشاميون فلم يكونوا يدفعون شيئاً لأنهم يأخذون أعطياتهم
وأرزاقهم كمقاتلة من ثلث الحاصل وهو الخراج.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق